بالشكل، يفترض أن يكون بيت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “بالقلعة”. نال ثقة وازنة: 85 صوتاً من الكتل الأساسية، “تيار المستقبل” و”التيار الوطني الحر” و”حركة أمل” و”حزب الله” و”اللقاء الديموقراطي”، “تيار المردة” وحلفائه، “الطاشناق” و”اللقاء التشاوري”، وغيرها… وحجب الثقة 15 نائباً أبرزهم من “تكتل الجمهورية القوية” وبعض المستقلين.
ولكن في الجوهر. لا يحسد ميقاتي على مهمته وها هو ينطلق في مشواره المعقّد على وقع اشتباك قاس مرشح له أن يشتد بين عدد من القوى السياسية، والمحقق العدلي طارق بيطار على خلفية الادعاءات التي سطرها بحق نواب ووزراء سابقين.
أكثر من ذلك، يخطو ميقاتي أولى خطواته في السراي الحكومي بينما التوتر الأميركي- الفرنسي يعكّر صفو الأجواء الدولية ويُخشى أن تطال شظاياه “المولود” اللبناني الجديد، وها هو يدشّن أول “انجازاته” من خلال زيارة عمل تحمله إلى العاصمة الفرنسية، الراعية الدولية له، ستتوج بلقاء يجمعه يوم الجمعة بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون.
كثيرة هي الألغام التي تحيط بحكومة ميقاتي، وتجعل مهمتها أكثر من مستحيلة في ضوء الأزمات التي تراكمت طوال السنتين الماضيتين، والتي تحتاج إلى معجزة لتأمين شبكة تفاهمات داخلية تحصّن أي خطة انقاذية وتحول دون وقوع الحكومة في مستنقع الخلافات التي قد تحوّلها إلى “مقبرة”.
ولعل هذه الاعتبارات هي التي تدفع ميقاتي إلى التريث قبل صياغة رؤيته الاقصادية والمالية. اذ لا يتردد أحد شركائه الحكوميين في التعبير عن تفاجئه من خلوّ جيب رئيس الحكومة من أي خطة تعافٍ موضوعة سلفاً من جانب رئيس الحكومة من باب كسب الوقت، ولعرضها سريعاً على طاولة مجلس الوزراء لمناقشتها والاتفاق عليها قبل التوجه بها إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
جلّ ما في بال رئيس الحكومة في الوقت الراهن هو اظهار قدرته على كسر الحصار الدولي المفروض على لبنان من خلال الإسراع إلى زيارة باريس ولقاء رئيسها، قبل الشروع في الورشة الإنقاذية… والاستعداد لخوض غمار الوحول الانتخابية التي ستجرّ الجميع إلى مواجهات، ما سيزيد الطين بلّة.
ولعل هذا ما يفسّر غياب “نادي رؤساء الحكومات السابقين” عن جلسة منح الثقة، ولهذا الغياب دلالاته وأبعاده، ما يقود إلى سؤال عما إذا كان هذا النادي، الذي يستظل “بيت الوسط”، قد انتقل برمّته إلى “التقاعد السياسي” وقد فقد دوره مع انتهاء الأزمة الحكومية وولادة حكومة ميقاتي.
اذ لم يجد سعد الحريري نفسه مضطراً للعودة إلى بيروت ولم يكلف تمام سلام نفسه عناء ابتكار عذر يبرّر عدم حضوره، بينما تولّى فؤاد السنيورة اختصار المرحلة بالقول إنّ “الدولة مخطوفة وتشكيل الحكومة لن يحررها”، وهي عبارة تعادل فعلياً خطوة حجب الثقة.
في المقابل، حظِيَ ميقاتي بمباركة دار الفتوى التي لم يستطع الحريري استدراجها، خلال تخبّطه في أزماته، إلى اصطفافٍ طائفي لصالح معركته. وكان لافتاً تأكيد ميقاتي بعد لقائه مفتي الجمهورية أن الزيارة كانت بروتوكوليّة، وهو الوصف السياسيّ الأدقّ الذي يجنّب دار الفتوى الانزلاق إلى صراعات الزواريب الإنتخابيّة.
كما حَظيَ ميقاتي بغطاء سنّي غير مشروط من “اللّقاء التشاوري” رغم استبعاد “اللقاء” عن الحكومة. وفي هذا السياق، كشفت أوساط مطّلعة عن لقاء تمّ بعيداً عن الإعلام بين ميقاتي والنائب فيصل كرامي عشيّة جلسة التصويت على الثقة. وأتى هذا اللقاء ليؤكد حرص ميقاتي على الانفتاح على الجميع وحرص “اللقاء التشاوري” على إعطاء الحكومة فرصةً للعمل لكبح الإنهيار.
واذا كان ميقاتي مربكاً بمهمته، فإنّ هناك من هو أكثر مأزومية منه، ولو أنّه راهناً على مقاعد المتفرجين، وهو سعد الحريري الذي يحصد ثمن سوء سياسته وسلوكه منذ تقديم استقالته بعد انتقاضة 17 تشرين، ومحاولته ركوب موجة الاعتراض الشعبي ومن ثم ترشحه لرئاسة الحكومة بعد طرح ميقاتي لمخرج الحكومة التكنوسياسيّة، وصولاً إلى سعيه الدؤوب لتأمين ممر آمن مع المملكة السعودية، ولكن من دون جدوى.
فعليّاً لقد سمّى الحريري ميقاتي لتشكيل الحكومة نتيجة نصائح وجهود كبيرة بذلها رئيس مجلس النواب نبيه بري. والأرجح أنّ رئيس “تيار المستقبل” راهن على الخلاف المستحكم بين العهد وبري، ليكون ميقاتي “كبش” هذا الخلاف، ما يدفعه إلى الاعتذار. لكنه أخطأ أيضاً في حساباته.
والأرجح أنّه لم يُخيّل للحريري أن أول ما سيفعله ميقاتي بعد تسميته من جانب “نادي رؤساء الحكومات السابقين”، هو دعوة جبران باسيل للعشاء. لم يُخيّل له أن الحكومة سترى النور في مهلة قياسية وستضمّ بري وباسيل من جديد إلى طاولة واحدة. ولم يُخيّل له أنّ أخبار لقاءات ميقاتي- باسيل ستخرج إلى الإعلام من دون أن تحرق أصابع رئيس الحكومة المكلف. ولم يُخيّل له أنّ الفريق السني “المنبوذ”، أي “اللقاء التشاوري”، سيمنح حكومة ميقاتي الثقة بالإجماع وبلا أي مطلب. والأكيد أنّه لن يهضم فكرة مشاهدة ميقاتي ضيفاً على السعودية بصفته رئيس حكومة لبنان. ما يطرح السؤال: ماذا سيحلّ بعلاقة ميقاتي بالحريري في ضوء هذه المستجدات؟
أغلب الظنّ أنّ رئيس الحكومة سيحرص على تظهير حسن علاقته بسلفه. لكن الحريري سيجد نفسه مضطرّاً لخوض معارك صعبة قد يبدأها بالقصف المركز على الحكومة ومكوّناتها… وقد لا يعفي رئيسها من راجماته. وقد يكون بذلك يطلق الرصاص على رجليه ليفقد آخر حلفائه!