حين يتعلق الأمر باتفاق الطائف، وتحديداً المسّ بصلاحيات الرئاسة الثالثة، لا يكون غريباً اصطفاف المكونات السياسية السنية خلف موقع رئاسة الحكومة، مهما كانت هوية المقيم في السرايا الحكومية. في هذا السياق، انعقد اللقاء الرباعي الذي جمع سعد الحريري برؤساء الحكومة السابقين أول من أمس
كلما طال أمد تأليف الحكومات في لبنان، سهّل ذلك تفريخ عناوين خلافية يتصل معظمها بالصلاحيات والتوازنات الداخلية والصراع التاريخي على السلطة. في هذا السياق، يأخذ التأخير في ملف التأليف البلد في اتجاه عناصر جديدة للتأزم الداخلي. فُتح الباب أمام مُنازلة مفتوحة بعنوان «الدفاع عن الصلاحيات الرئاسية». ظاهر الصراع دستوري، لكن مضمونه سياسي، لا بل يندرج ضمن معارك الطوائف على تثبيت «أختام» نفوذها ضمن وعاء النظام السياسي الطائفي القائم.
يسارع البعض إلى القول إن تغريدة النائب جميل السيد هي التي أعطت الحريري ذريعة «دب الصوت» دفاعاً عن الصلاحيات. في تغريدته، من موقعه كنائب مستقل وحليف للمقاومة، لمح السيد إلى توقيع «عريضة (نيابية) لتكليف آخر غير الرئيس سعد الحريري مهمة تشكيل الحكومة إذا ظل رهينة». تغريدة تلتها بيانات؛ أبرزها تلك التي صدرت عن الدائرة الإعلامية في القصر الجمهوري، وتناولت صلاحيات رئاسة الجمهورية في تأليف الحكومة وفق الدستور، وكذلك عن كتلة المستقبل وأكدت أن مهمة التأليف مناطة حصراً بالرئيس المكلف بالتعاون والتنسيق الكاملين مع رئيس الجمهورية. في هذا الوقت الحكومي الضائع، أطل رؤساء الحكومات السابقين في أول لقاء يجمعهم بعد الانتخابات النيابية.
استضاف اللقاء، أول من أمس، الرئيس سعد الحريري في منزله في وادي أبو جميل بحضور كل من فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام. بدا المجتمعون، وكلهم أتوا بثياب غير رسمية، كأنهم قرروا الوقوف خلف رئيس الحكومة المكلف في معركة الدفاع عن صلاحيات الرئاسة الثالثة، في مواجهة الاجتهادات أو التفسيرات الدستورية التي تريد الانتقاص من هذه الصلاحية شبه المطلقة وغير المقيدة بسقف زمني.
ثمّة من لا يُريد للحريري أن يقِف متفرّجاً في مواجهة ما يتعرض له من حملات. رمزيّة التوقيت للكلام الصادر عن جهات مختلفة بشأن الصلاحيات، استوجبت استنفار الرئيس فؤاد السنيورة. هو ليسَ ابن البارحة. من يعرفه، ويعرف منطق تفكيره، يدرك حساسيته تجاه كل ما يمس الصلاحيات، وهو الذي خاض معركة شرسة ضد الرئيس إميل لحود، وصولاً إلى محاولة شطب موقع الرئاسة الأولى قبل عقد ونيف من الزمن.
يريد السنيورة أن تُسمع كلمة الزعيم السني الأقوى، تماماً كما هي الحال عند المسيحي الأقوى والشيعي الذي لا منافس له والدرزي الأول إلخ…. لا شيء «يضمن» ذلك بالنسبة إلى السنيورة، سوى اتفاق الطائف الذي صار نصاً دستورياً تبناه الجميع وأقسم رئيس الجمهورية على حمايته.
وفي المعلومات، أن السنيورة حاول جاهداً منذ أكثر من عشرة أيام عقد الاجتماع الرباعي، لكنه اصطدم برفضٍ حريريّ بداية «تجنباً لإغضاب الرئيس ميشال عون»، كما تقول أوساط مطّلعة على اللقاء، لكن إصرار السنيورة أحرج الحريري، برغم اقتناع الأخير بمردوده الإيجابي. وشدد السنيورة أمام نواب في كتلة المستقبل على أن «الكلام الذي نسمعه (حول الصلاحيات) لا بد من الرد عليه، وصولاً إلى التصدي له». استخدم الرجل مفتاح الطائفة وجمهورها الذي «لن يسكت في حال التساهل»… والدليل «انتفاضته في الانتخابات النيابية الأخيرة على التسوية مع ميشال عون والتنازلات له»، ما يعني أن المضي في سياسة التنازلات «سيرتد علينا بنتائج وخيمة».
هناك نقطة جوهرية لا بد من تسجيلها قبلَ الدخول في تفسير معاني اللقاء ورسائله، وهي أن المجتمعين في بيت الوسط، كانوا يحمون أنفسهم قبل توفير الحماية للحريري نفسه. معه أولاً، ومن ثمّ في مقابل المواقع الدستورية الأخرى.
في تفسير أوضح، يدرك أي طامح لاحتلال منصب الرئاسة الثالثة إذا كان من المحسوبين على التيار الأزرق، (إذا تسنت له الظروف) أن الحريري هو محطة العبور الإلزامية للسرايا الحكومية، تماماً كما حصل مع السنيورة مرتين ومع تمام سلام مرة واحدة، وبالتالي يأتي هذا الاجتماع كـ«دفعة عالحساب».
بالنسبة إلى ميقاتي، لن يكون الحريري معبراً إلزامياً له. القرار الدولي والإقليمي أتى بميقاتي رئيساً للحكومة في عام 2005 ولم تكن الخصومة السياسية مع الحريري سوى بطاقة عبوره في عام 2011 إلى السرايا الكبيرة. أي أنهما في هذه النقطة تحديداً في حالة خصومة دائمة.
هذه المرة لم ينزل ميقاتي الى بيت الوسط كنائب منتخب بالتحالف مع الحريري أو ضمن لوائحه. نزل نائباً منتخباً بقدرة ذاتية دفعت الحريري بعد الانتخابات إلى القول إن «ميقاتي خير من يمثّل طرابلس»، بينما كان بإمكان رئيس تيار العزم التهرب من الدعوة والاكتفاء بالتفرّج على الحريري وهو «يأكل العصي».
رفض الحريري في البداية عقد اللقاء «تجنباً لإغضاب الرئيس عون»
الدفاع عن صلاحيات رئيس الحكومة السني شعار يحرج الجميع، وأولهم ميقاتي الذي لا يفوت مناسبة للتحذير من خطورة المس بالطائف وصلاحيات رئاسة الحكومة، أضف الى ذلك كون اللقاء فرصة للرئيس ميقاتي، لتحييد نفسه عن باقي المكونات السنية خارج عباءة الحريري. صحيح هو في الموقع الوسطي بين الحريري وخصومه (سُنّة 8 آذار)، لكن «في وقت الجدّ» لن يتوانى عن دعم أي شخصية تحتل هذا الموقع. هي مبادرة حسن نية، علّها تدفع برئيس الحكومة إلى حجز مقعد وزاري لكتلة ميقاتي، وخصوصاً في ظل رفض الحريري الفكرة حتى الآن (أعادت الكتلة المطالبة بالتوزير في اجتماعها الأخير قبل ساعات قليلة من لقاء رؤساء الحكومات)!
بكل الأحوال، أعطى اللقاء جرعة دعم كبيرة لرئيس الحكومة. أراد الأربعة القول إن «الخلافات حول بعض الملفات تختفي أمام أي تهديد يمس صلاحيات الموقع السياسي الأول للطائفة السنية، أياً تكُن الشخصية التي تشغله».
وأكدت مصادر متابعة أن اللقاء تضمن «رسائل متعدّدة الاتجاهات». واحدة لبعبدا تقول بأنه «في الشأن المرتبط بالتأليف، قد يكون هناك بعض التباينات. أما في شأن الصلاحيات، فالجميع يقف صفاً واحداً خلف الحريري». وثانية لحزب الله تقول إن «من غير الجائز الوقوف خلفَ سنّة 8 آذار وتشكيل رافعة لهم، وفرض تسميات على الحريري لا يقبل بها». وثالثة وأخيرة لبعض الأطراف التي لا تساوم على حصتها، تأكيداً على أن «مفتاح التأليف هو في يد رئيس الحكومة وحده».
وحسب أحد رؤساء الحكومات، تميز اللقاء بالصراحة، وقد قدم الحريري وجهة نظره، من دون أن يطلب شيئاً محدداً من الحاضرين، وركز على المخاطر الأساسية التي تواجه البلد سياسياً واقتصادياً ومالياً، ووافقه في ذلك السنيورة، فيما أبلغه ميقاتي أنه مع كل ما من شأنه تسهيل ولادة الحكومة وبأسرع ما يمكن للتصدي للملفات الكبيرة، وأولها الوضع الاقتصادي والمالي.