عند كلّ مفصل من مفاصل الحياة اللبنانيّة تطرح إشكاليّة العيش المشترَك، أو التعايش المشترَك كما يحلو لبعضهم تسميتها. وهذه المسألة هي جوهر الإشكاليّة اللبنانيّة. والأكثر، جوهر لبنان الرسالة. إن بَطُلَ هذا المفهوم بَطُلَ جوهر قيام لبنان. وعندها ما من سبب لقيام هذا الوطن بكيانيّته التي بُنِيَ على أساسها. وهذا المبدأ الذي يهتزّ أوّلاً عند أيّ نزاع مناطقي أو حتّى عائلي أو عشائري، سرعان ما يأخذ الطابع الطوائفي بين مختلف الطوائف أو الأديان أو حتّى المذاهب.
ولا يمكن القفز فوق هذه الإشكاليّة كلّ مرّة على قاعدة “تبويس اللِّحى” للحدّ من ضررها. يجب الانتهاء من هذه الطريقة بحلّ أيّ إشكال على هذه الخلفيّة. من دون أيّ تساؤلات حول كيفيّة العلاج. فالحلّ الوحيد يوجد في ” الكتاب” أي الدستور اللبناني. ولعلّ ما يحدث من إشكاليّات بين مختلف الفئات اللبنانيّة مردّه عدم تطبيق الكتاب، أو بالحدّ الأدنى تطبيقه بطريقة استنسابيّة. وهذا ما يخلق نقمة كبيرة لدى الفئة التي يتمّ استضعافها ما قد يولّد عندها أيّ شعور بالانتقام فور تبدّل موازين القوى. ولعلّ ما يدفعه لبنان اليوم هو نتيجة للتطبيق المعتوِر للدستور في أوّل خمسين سنة من عمره. وهذا ما دفع نحو تبديله في الخمسين الثانية، لكنّ هذا التبديل لم يأتِ تطبيقه كاملاً ما أبقى الإشكاليّة المطروحة في وضعيّة راوح مكانك.
إذا قاربنا المسألة لغويّاً فعبارة “التعايش” هي المصدر من فعل ” تعايش” الذي هو فعل ثلاثي مزيد بحرفين على وزن تفاعل، الذي يحمل أربعة معانٍ كالآتي: المشاركة بين اثنين أو أكثر. والتظاهر أو الإدّعاء بالإنصاف بالفعل مع انتفائه. والدلالة على التدرّج في حدوث الفعل شيئاً فشيئاً. والمطاوعة. إذا أخذنا المعاني الأربعة فنجد أنّ الحالة الأولى هي الأقرب إلى الفلسفة السياسيّة للجذر اللغوي. لكن لا يمكن إغفال المعاني الثلاثة الباقية، والتي على ما يبدو أنّ الواقع اللبناني قد فرضها فرضاً في الحالة اللبنانيّة سياسيّاً.
فالمشاركة الحياتيّة هي بحدّها الأدنى فرضها الواقع الجيوسوسيولوجي لا غير، وهي بحكم الجيرة والحاجة، وتنتفي عند انتفاء هذه الجيرة وهذه الحاجة. بمعنى آخر، التعبير العامّي ” ضحك ع الدّقون” يعبّر عنها بكلّ صدق. فالواقع اليوم وأمس هو محصور بحالات التظاهر أو الإدّعاء والتدرّج في تحقيق هذه المسألة وصولاً حتّى المطاوعة التي تحدث رغماً عن الإنسان أي بفرض لأمر واقع ما.
من هذا المنطلق، نقارب استخدام عبارة التعايش المشترك، أو حتّى العيش المشترك التي يتمّ استخدامها لوصف الحالة السوسيوبوليتيكيّة في الواقع اللبناني. لذلك، يبدو استخدامها في غير محلّه إلا إذا كان مقصوداً وصف الحالة اللبنانيّة بعجزها هذا. وفي كلّ مرّة يهتزّ هذا التعايش يتهافت الوجهاء الإجتماعيّون، نوّاب ووزراء ورؤساء بلديّات ومخاتير وحتّى رجال الدّين ويبدأ تبويس اللِّحى، فتُدفَنُ الفتنة تحت جمر سرعان ما يعود ويلتهب عند أوّل عصفة ريح. والمفارقة في هذه الوقائع أنّها لا تحمل أيّ هويّة لأنّها تتنقّل على مساحة الـ 10452 كم2، وسرعان ما يتمّ الاستثمار فيها، إمّا لتبييض الوجوه التي باتت كالطناجر الصدئة التي أكلها زنجار أكذوبة التعايش المشترَك؛ وإمّا لتسعير هذه الفتنة خدمة لأغراض وأهداف سياسيّة خدمة لمن هم أبعد من حدود الوطن. ولا يمكن بعد اليوم الاستمرار بهذه الكذبة. وأيّ تفعيل لتثبيتها أكثر بين اللبنانيّين يدلّ على أنّ مبوّسي اللِّحى لا يريدون أن يفقدوا وظيفتهم التي باتت وحيدة بعد نجاحهم في تخدير العقول اجتماعيّاً بتخويف النّاس بعضهم من بعض.
لذلك، ضرورة تصحيح هذا الخطأ المصطلحي تصحيحاً كيانيّاً لما يرتبط ذلك بتثبيت الكيانيّة اللبنانيّة التي تقوم على مبدأ العيش معاً. وهذا ما يدلّ على احترام متبادَل بين الأفرقاء من دون أن يكون هنالك مشاركة مزيّفة، أم ادّعاء بالإنصاف بالفعل مع انتفائه، أم في دلالة على التدرّج في حدوث الفعل شيئاً فشيئاً وعدم تحقّق هذا التدرُّج، أم مطاوعة بالغصب والفرض بقوّة السلاح غير الشرعي ترهيباً، أو ترغيباً بتفاهمات مركنتيليّة على حساب الوطن والدّولة والكيان كما حصل في 6 شباط 2006. إن لم نفهم هذا المبدأ فعبثاً نحاول درء الفتن المتنقلة. ولا بل الأكثر من ذلك، تقنيّة تبويس اللِّحى ليست إلا تخديراً موقّتاً للفتنة ودملها تحت الرّماد مع القدرة على إشعالها في كلّ حين مع وجود محفّز ما لها، أو غبّ الطلب، وعلى سبيل السخرية قد يكون هذا المحفّز مثلاً مباراة رياضيّة أو قناة مياه أو ما شابه ذلك.
مرتا مرتا تبحث عن حلول كثيرة فيما الحلّ المطلوب واحد ويكمن بالعودة إلى الكتاب، أي الدّستور، إضافة إلى إرساء تربية وطنيّة تقوم على العيش معاً وليس على التعايش. والعيش معاً لا يقوم إلا على الحريّة الكيانيّة الأصيلة. فباحترامها فقط يمكن ان نعيش معاً. وأيّ انتقاص لهذه الحريّة بالذات ننتقل إلى صيغة من صيغ التعايش التي نطبّقها اليوم. ونتائج الفتنة فيها مضمونة. وهذا ما لا نريده.
المطلوب تطبيق الدّستور الذي يضمن هذا العيش معاً. ولا يمكن التّحايل على القانون حيث يتمّ إدخال المفتِنين من باب التوقيف القانوني ليخرجوا بعد تبويس اللِّحى. وبالطّبع لا يمكن لأيّ أمن ذاتي أن يحلّ هذه الإشكاليّة لأنّ ذلك إن حصل فهو يؤجّج الفتنة في النّفوس أكثر فأكثر. والأهمّ من ذلك كلّه، يجب تطبيق المساواة والعدالة بين اللبنانيّين جميعهم. وما لم يتمّ الانتهاء من ظاهرة الإنتشاء بالقدرة على حمل السلاح غير الشرعي، واستخدامه لإرهاب الآخر المختلف لن نستطيع العيش معاً؛ حتّى لو وجد دستور وقانون لأنّ مفعول القوّة عندها قد يُبطِل مفعول القانون.
أمّا نحن فلقد اخترنا العيش معاً وعن قناعة وطنيّة كيانيّة، ونرفض صيغ التعايش الكاذب كلّها. ونحتكم إلى القانون والدّستور لكن “حيطنا مش واطي”، وحذارِ أن يختبر أحد صبرنا لأنّنا أبناء مقاومة مستمرّة، وأبناء جمهوريّة قادرة وقويّة. ومن له أذنان للسّماع… فليسمع !