بقدر ما يؤشر إستهداف مدن الساحل السوري إلى تهرؤ المنظومة الأمنية لنظام الأسد وحلفائه، بما فيهم الروس أنفسهم الذين لهم مصالح أمنية حيوية في تلك المنطقة، بقدر ما يعني ذلك أن الإرتكان على القوة وحدها لحل الأزمة السورية ليس سوى ممارسة عملية حرث في البحر.
ليس في سوريا مكاناً آمناً طالما أن أركان هذا البلد تنزف موتاً ورعباً، لكن ما لم يلتفت له من يدير منظومة القتل أن إزاحته للضمير وللقانون وقبوله إستباحة ادواته للمكوّن السوري المعارض لا بد أن ترتد عليه ذلك أن الإستباحة أصبحت طريقة عمل وسلوك تنتهجه منظومة الإجرام التي تحوّلت إلى ما يمكن تسميتها بـ« الإجرام القابل للتشغيل« طالما يحصل على المزايا ذاتها في خدمة القاتل الأساسي، على الأقل هذا ما توحي القراءة المنطقية لعملية الإختراق الواسعة للشبكات الأمنية وخطوط الدفاع المتراصّة في منطقة أمنية بإمتياز، والأنكى أن الأمر لم يقف عند حدود تفجير واحد، بل سبعة تفجيرات متزامنة!.
بالطبع، لا يمكن إستبعاد فرضية تواطؤ أجهزة المنظومة الأسدية في مثل هذه العملية المعقّدة والتي احتاج حصولها إلى معونات لوجستية لا يمكن لأحد تقديمها سوى أجهزة النظام، ولا شك أن ثمّة ظرف سياسي يدفع نظام الأسد للتفكير بمثل هذا الخيار، وذلك ان نظام الأسد يتبع إستراتيجية جعل ديناميات الفوضى مشتغلة لإستنزاف جميع الأطراف وعدم ترك مساحة قد تجعل الأطراف تفكر بخيارات قد ينتج عنها إزاحته عن السلطة، وعند هذه النقطة لا يعود مهماً بيئة الإستهداف وتوقيته، من دون نسيان الألعاب الإستخباراتية ذات الطابع القذر التي تقوم بها أجهزة الإستخبارات المتنافسة والمتضاربة في أحيان كثيرة.
ولعل المؤشر الأكثر دلالة في هذه العملية يتمثل بنهاية الألعاب الجيوسياسية في سوريا، أو بعدم جديتها وقدرتها على الصمود على أرض الواقع، فسوريا المفيدة التي طالما روّجت لها إيران ودعمتها روسيا بدت على وقع تفجيرات طرطوس وجبلة مجرد ترسيمات نظرية غير واقعية ويصعب تفريغها على شكل جغرافيا وديمغرافيا في قلب سوريا الملتهبة وانه لا يمكن تأمينها عبر عمليات تجريف ديمغرافي هنا وهناك ذلك أن تعقيدات خرائط التداخل أصعب بكثير من أن يجري توظيفها وفق النمطية التي إتبعها نظام الأسد وحلفاؤه في السنوات الأخيرة.
غير أن هذه العملية فتحت الباب أمام سؤال مهم، وهو ما إذا كانت الحرب قد تجاوزت قواعد الاشتباك التي تواضعت عليها الأطراف المحلية والخارجية والتي قضت ببقاء مناطق الساحل خارج العمليات العسكرية، صحيح أن أطراف تلك المناطق شهدت معارك كثيرة لكن قلب تلك المنطقة بقي محيداً برغبة وطلب من قوى دولية كبرى من ضمنها روسيا والولايات المتحدة نفسها، وصحيح أن العملية تمت على يد تنظيم داعش الذي يعتبر خارج التفاهمات وقواعد الاشتباك، لكن ثبت ومن خلال وقائع ووثائق تم الكشف عنها أن هذا التنظيم ارتبط مع منظومة إيران بجملة من التفاهمات الاستراتيجية أمّنت تعاوناً بين الطرفين وخاصة على مستوى بيع وشراء الطاقة أو بخصوص التنسيق في استهداف فصائل المعارضة.
بيد أن أهم المؤشرات التي تنطوي عليها العملية يتمثل بأن الحرب في سوريا بالفعل مفتوحة على كل الاحتمالات وتحمل في داخلها ديناميات تطويرها وتحوّلها إلى أشكال متعدّدة حسب الظروف والمتغيرات، وهي وإن ظلت طوال السنوات السابقة تشتغل تحت عنوان الصراع السياسي بين منظومة الأسد والمعارضة، ورغم أن نظام الأسد حوّلها إلى حرب شاملة إلا ان المعارضة التزمت بقواعد محدّدة للاشتباك وهو ما وضع النظام تحت ضغوط عديدة من قبل المجتمع الدولي، وعلى ذلك فإن مثل هذه العمليات تعمل على تحرير النظام من الضغوط بذريعة حماية بيئته الأمنية لكنها في الوقت نفسه تدفع بقوة مقابلة غير ملتزمة بقواعد الاشتباك إلى سطح الحدث ويحوّل تالياً العملية برمتها إلى حالة من الفوضى، وفي مثل هذه الحالة لا يعود ثمة ما يعول عليه من عمليات التفاوض ويضع الجميع أمام خيارات وبدائل مختلفة.
بكل الأحوال هذا التطور يبدو منطقياً مع التسلسل الحدثي وفي ظل انسداد الأفق ورفض الطرف الآخر لأي حل سياسي والرهان على القوة لكسب الصراع، وهو الرهان الذي تغذيه الأطراف الداعمة للنظام بدرجة كبيرة، وهو ما يشكل نظام تغذية دائم لظهور بدائل تستجيب لمنطق القوة الذي ينتهجه الطرف الآخر.
كاتب من سوريا