يتعامل البعض مع مفهوم التعايش بين اللبنانيين والمقصود بين المسيحيين والمسلمين، وكأنّه يرتقي إلى مرتبة القداسة غير المسموح المساس بها ولا التحدّث عنها سوى بمصطلحات التعظيم التي تبدأ بالتجربة الإنسانية الفريدة ولا تنتهي بالنموذج الذي يجب الحفاظ عليه.
من الأخطاء التاريخية، ربما، ربط التعايش بالمسيحيين والمسلمين، ومن قام بهذا الربط عمد عن سوء أو حسن نية إلى تصوير لبنان بالأرض التي أرادها الله، وخصّصها لتكون مختبراً للتعايش بين الديانات السماوية، الأمر الذي جعل التحدُّث عن هذا الأمر من المحرّمات.
فلا يجب ان يُربط التعايش بالمسيحيين والمسلمين، إنما الربط الأساس يجب ان يكون بالمشاريع التي تحملها الجماعات والقوى السياسية، إذ يستحيل ان تتعايش مشاريع متناقضة على أرض مشتركة وتحت سقف دولة واحدة، وغير صحيح انّ الشعب اللبناني هو شعب الله المختار، وقد خصّصه وحده بمهمّة استثنائية كناية عن رسالة سامية، كما انّه من غير الصحيح انّ لبنان هو قطعة من السماء، مع كامل التقدير للراحل الكبير وديع الصافي ولكل الجهد الثقافي الذي وضع بهدف السعي إلى توحيد اللبنانيين بمثل عليا حول لبنان.
وتعدّ الطائفية من أبرز الحواجز التي وُضعت من أجل قطع الطريق على اي بحث واقعي وجدّي ومنطقي ومصلحي وإنساني بالتركيبة اللبنانية، إذ في اللحظة الأولى التي يُفتح فيها هذا النقاش يخوّن أصحابه ويتهمون برفض رسالة سماوية.
فالإشكالية الأساسية التي يُفترض التركيز عليها ليست التعايش بين المسيحيين والمسلمين، إنما إشكالية اتفاق المجموعات التي يتكوّن منها لبنان على مبادئ ومفاهيم مشتركة بسيطة وبديهية من قبيل نهائية البلد وحدوده ووجود دولة ناظمة لحياة الناس التي تعيش على هذه الأرض، وان تتفِّق هذه المجموعات والشرائح التي ولدت في هذه الأرض، وقرّرت البقاء فيها على العيش بسلام واستقرار وأمان وازدهار وطمأنينة، وان تتفِّق إنّ هدفها الأول والأخير هو السعي إلى تحسين نوعية حياتها في بيئة حاضنة لتطلعاتها وأحلامها.
والإنقسام بين اللبنانيين هو من طبيعة بشرية لا إلهية، بمعنى انّه قابل للنقاش والمراجعة والأخذ والردّ. فإذا كانت المجموعات التي يتألّف منها لبنان غير قادرة على الاتفاق على عنوانين فقط لا غير: عنوان الدولة التي وحدها بمؤسساتها المختلفة مسؤولة عن تنظيم حياة الناس، بما يخدم مصلحة هؤلاء الناس، وعنوان أولوية تطوير حياة من يعيش ضمن هذه المساحة المسماة لبنان، وبالتالي في حال كانت هذه المجموعات غير قادرة على الاتفاق على هذين العنوانين فما عليها سوى إعادة النظر بالخريطة الجغرافية اللبنانية.
وفي أي نص ديني مثلاً كُتب انّه على الشعب اللبناني ان يعيش مقهوراً ومعذّباً ويموت جوعاً تحقيقاً لآية في كتاب سماوي، ومن ثمّ لو كان المطروح فعلاً التعايش بين المسلمين والمسيحيين لكان وجِب على المرجعيات الروحية المسيحية والإسلامية العمل على تنظيمه، إنما لبنان دولة مدنية ودستورها مدني بامتياز، وينص انّ «الشعب هو مصدر السلطات ويمارسها عبر المؤسسات الدستورية»، كما ينص على احترام حرّية الرأي والمعتقد والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع اللبنانيين دون تمايز او تفضيل.
وباستثناء حقبة صغيرة بعد الاستقلال، فإنّ الشعب اللبناني لم يعد مصدر السلطات، كون السلطة الفعلية هي خارج المؤسسات الدستورية، كما انّ المساواة بين اللبنانيين غير موجودة في ظلّ فئة تُلزم الآخرين بمشروعها ورؤيتها، واعتراضهم على هذا التوجُّه يواجه إما بالتخوين وإما بالعنف وإما بعدم الاكتراث على قاعدة انّ الأقوى يحكم ويتحكّم.
ومن الملحّ اليوم قبل الغد التمييز حتى حدود الفصل بين التعايش الديني، وهو غير مطروح في ظلّ التفاعل الحياتي المشترك بين الناس من طوائف ومذاهب مختلفة، وبين التعايش السياسي الذي أثبتت التجربة منذ الاستقلال وتحديداً منذ العام 1969 انّه مستحيل، وهذا ليس عيباً، إنما العيب في إخضاع الآخرين لقناعات مختلفة عن قناعاتهم.
وهناك من يتعمّد ويتقصّد الخلط بين التعايش الديني والتعايش السياسي من أجل منع الفرز السياسي او المجتمعي من خلال التلطّي بالقدسية التعايشية، وهذه خطيئة تُرتكب منذ عقود بحقّ اللبنانيين، ولم يتفجّر لبنان أساساً لأسباب تعايشية، إنما تفجّر بسبب مشاريع سياسية، وصحيح انّ هذه المشاريع حملتها الطوائف وأيّدتها، إنما الخلاف الذي أدّى إلى الانفجار من طبيعة سياسية لا دينية ولا مجتمعية.
فالخلاف حول «مايوه» صيدا مثلاً يُعالج في أرضه، خصوصاً انّ الدستور واضح على هذا المستوى لجهة انّ «أرض لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحقّ في الإقامة على اي جزء منها والتمتُّع به في ظلّ سيادة القانون»، كما انّ نمط عيش معظم اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، هو واحد تقريباً، وثورة العام 1958 لم تندلع لاعتبارات مجتمعية، وحرب العام 1975 لا علاقة لها باختلاف نمط العيش بين المسيحيين والمسلمين، والخلاف الجوهري مع «حزب الله» اليوم لا علاقة له بأسلوب حياته ومعتقداته الدينية، إنما مردّه إلى إلزام اللبنانيين بالقوة بمشروعه السياسي الخاص المسمّى مقاومة، وإقناعهم بأنّ هذا المشروع لمصلحتهم ودفاعاً عنهم وعن سيادتهم.
فالتعايش بين المسيحيين والمسلمين قائم وبقوة بين البلدات المختلطة ومراكز العمل وعلى الطرقات وفي المطاعم والمقاهي وفي الإدارات والمؤسسات، وهو تعايش طبيعي بين مواطنين ينتمون إلى طوائف مختلفة ومن بينهم من يرفض وضعه في الخانة الطائفية، وبالتالي، من الخطيئة تصوير المشكلة بين اللبنانيين بأنّها مشكلة تعايش واستحالته، فيما لكل فرد في المجتمع ممارسة طريقة عيشه بالطريقة التي يراها مناسبة تحت سقف القانون والأخلاق ومن دون ان يشكّل ضرراً لغيره.
فالخطيئة هي في هذه القدسية التي أُعطيت للتعايش بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، وهذا ما يفترض إسقاطه، لأنّ لبنان كأي دولة في العالم لها دستورها ونظمها وقوانينها التي يجب ان يلتزم بها كل من يعيش ضمن هذه المساحة، بمعزل عن طائفته او مذهبه او إيمانه او لون بشرته. فإما هناك دولة ودستور وقانون، وإما العودة إلى ما قبل المجتمعات الحديثة، والتي هي كناية عن قوانين الطبيعة، حيث انّ القوي يحكم والضعيف يخضع.
ولا يجب إنكار انّ بعض المشاريع السياسية تحملها طوائف او النسبة الأكبر فيها، من قبيل انّ الثورة الفلسطينية كانت تحظى بتأييد غالبية السنّة، كما انّ مشروع «حزب الله» يحظى مبدئياً بتأييد النسبة الأكبر من الشيعة، ولكن هذا لا يعني انّ الخلاف هو بين الشيعة وسائر اللبنانيين من المسيحيين والمذاهب الإسلامية والدروز، ولو كان كذلك لوجب إحالته على رجال الدين لإيجاد الحلول لهذا الانقسام، إنما هو خلاف سياسي مردّه إلى مشروع الحزب الذي يريد إلزام اللبنانيين بمشروعه الخاص الذي يتناقض مع رؤيتهم للبنان.
وما هو مطلوب اليوم، الفصل بين التعايش الطوائفي، والتعامل معه وكأنّه غير موجود ولا مطروح، والتعايش بين مشاريع سياسية متناقضة، الأمر الذي لم يعدّ يصح استمراره، ويتطلّب الإسراع في الفصل الجغرافي والسياسي بين المشاريع السياسية. فمن يريد العيش في كنف دولة وسلاح واحد ودستور وقانون وارتباط بالعالم الخارجي، وأولوية حرّية واقتصاد ونمط عيش، يختار هذا النموذج، ومن يريد العيش وسط مشروع ثوري يريد تغيير العالم وتحميل شعوبه مهمّات ما فوق بشرية، ومن متطلبات تحقيقه الابتعاد عن نموذج الدولة الحديث وابتداع شكل جديد يزاوج بين حالة ثورية تُمسِك بالقرار الأساسي وحالة دولة شكلية وصورية، يختار هذا النموذج. فلا حلول وسط على هذا المستوى، لأنّ الوسطية أدّت إلى تغليب حالة اللا دولة على حالة الدولة.
فالمشكلة في لبنان ليست في التعايش بين المسيحيين والمسلمين، إنما مشكل التعايش بين مشاريع سياسية متناقضة ومتباعدة. وحان الوقت ليكون الفرز بين اللبنانيين على قاعدة الوصل والفصل، الوصل بين اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، الذين قرّروا العيش في كنف دولة طبيعية، أم في كنف حالة ثورية، والفصل الجغرافي بين الدولة والثورة، لأنّه من غير المقبول ان تبقى الدولة مخطوفة من الثورة، ولا مقبولا ان يبقى هذا الانقسام وارتداداته السلبية على المجتمع. فمن يريد العيش وسط ثورة ومشروع حرب أكبر من لبنان، فليُقم دولته ويمارس قناعاته من دون ان يُلزم الآخرين بها، ومن يريد العيش وسط دولة طبيعية كأي دولة حضارية في العالم، فليُقم دولته من دون ان يُقنع من لن يقتنع بمفاهيم غريبة عنه من قبيل الاستقرار والازدهار.
لقد حان وقت الحسم والفصل..