IMLebanon

هل من نية للانتقال من العيش الكاذب إلى الفعلي؟

 

 

هناك سوء فهم فعلي لحقيقة معنى العيش المشترك، وسوء الفهم هذا بدأ مع تأسيس الكيان بصورته الحالية وما زال مستمراً، وقد حوّل لبنان إلى دولة فاشلة وحياة اللبنانيين إلى جحيم.

العيش المشترك ليس اختصاصاً لبنانياً لمختبر حياة بين المسيحيين والمسلمين، وليس مصطلحا دينيا تمّ ذكره في الإنجيل والقرآن، إنما إرادة إنسانية صادقة تجلّت لدى معظم شعوب العالم التي تريد العيش بسلام، فقررت تنظيم مجتمعاتها على قاعدة دول يحكمها الدستور والقانون والمساواة، وهذا ما جعلها حضارية وحديثة ومستقرة وعصرية ومزدهرة.

 

والفارق الجوهري والأساسي بين الدول الناجحة والأخرى الفاشلة هو انّ أولوية الشعوب في الأولى تكمن في حياتها ورفاهيتها ومستقبلها وعملها وتطورها، فيما أولوية بعض الشعوب في الثانية تتعلّق بتحقيق مشاريعها العابرة للدول والبشر، وفي الحالتين يستحيل ان تستقر المجتمعات من دون إدارة ناظِمة قادرة بقوة القانون على ضبط الجميع تحت سقف الدولة.

 

فالعيش المشترك ليس اختراعا ولا اختصاصا ولا نصا مُنزلا، إنما رغبة إنسانية كونية للعيش بسلام، ومَن يتقصّد تقديس العيش المشترك في لبنان ينتمي إمّا إلى فئة تبحث عن دور شخصي على حساب اللبنانيين، وإمّا إلى فئة تعيش في أفكارها بعيداً عن الواقع، وإمّا إلى فئة تُبدّي «المسايرة» على الحقيقة، وإمّا إلى فئة تدّعي عكس ما تقول وتراهن على الوقت لتغيير الوقائع الديموغرافية للتخلّص من العيش المشترك.

 

والقاعدة الأولى للعيش المشترك في العالم كله هو أن ترتضي الناس العيش في ظل دولة قانون، وان تتفاهم على أساسيات وبديهيات، وفي حال لم تنجح في الاتفاق على ما هو أساسي وبديهي عليها ان تنفصل حبيّاً او ان تبحث عن الإطار الكفيل بنقل مجتمعاتها من عدم الاستقرار إلى الاستقرار.

والمقصود من ذلك كله التأكيد بأنّ العيش المشترك ليس قدرا على الناس التسليم به، إنما هو خيار كالزواج، فإمّا ان تنجح المجموعات التي تتعايَش على أرض واحدة في تنظيم عيشها تحت سقف دولة ودستور وقانون، ونجاحها لا يعني رسالة إيجابية، إنما مسألة طبيعية، وإما ان تفشل فتبحث عن نظام آخر، وفشلها لا يعني رسالة سلبية، إنما مسألة طبيعية أيضا وتندرج في صلب الطبيعة البشرية، وأكبر خطيئة ارتكبت وترتكب تكمن في هذا التضخيم المتعمّد للعيش المشترك في لبنان.

 

ويجب التسليم بأنّ الناس أساساً غير متشابهة، والتسليم أيضا بأنّ بعض المجموعات لديها نظرة مختلفة للدولة ودورها، وترفض نموذج الدولة الأمة مثلاً، وهذا حقها ولا يجوز تخوينها ولا فرض نموذج يتعارض مع رؤيتها عليها، ولكن ليس من حقها بالمقابل ان تفرض نموذجها على غيرها، والشعوب الراقية تبحث عن الصيغة الأمثل لعيشها، وهذا ما يفسِّر تعدُّد الأنظمة في هذا العالم بما يتلاءم مع طبيعة كل مجتمع.

 

وبعيداً عن لغة الشعر والزجل والمثاليات، فإنّ نجاح العيش المشترك في لبنان او فشله يتوقّف على الإجابة عن السؤال التالي: ماذا يعني العيش المشترك في بلد مثل لبنان؟ يجب التشديد أولاً على أنه لا يوجد سوى تفسير واحد لهذا العيش، والتأكيد ثانياً بأنّ العيش المشترك لا يعني ان تذوب طائفة بأخرى، ولا ان تكون جماعة مُلحقة بأخرى، والتأكيد والتشديد ثالثاً بأنّ العيش المشترك يعني ان تلتقي الطوائف طوعاً على ثوابت مشتركة قوامها دولة ودستور وقانون، وفي حال لم تلتق لا سبيل إلّا الفصل والطلاق، وخلاف ذلك يعني سعياً خبيثاً للتخلّص من المسيحيين بالرهان على عامل الوقت والكذب عليهم بالرغبة في العيش معاً.

 

والمسألة بغاية البساطة وبعيداً عن التعقيد المصطنع: فإمّا ان تكون الطوائف اللبنانية قادرة وراغبة على الاتفاق على ثوابت مشتركة تُفضي إلى استقرار لبنان وازدهاره، وإمّا انها عاجزة عن الاتفاق على دولة واحدة، وعجزها يُحتِّم عليها البحث عن الصيغة التي تؤمِّن الاستقرار وتبدِّد الهواجس، ولكن ان تكون عاجزة ولا تريد تغيير الصيغة فهنا تكمن الجريمة الكبرى.

 

وقد تحوّل العيش المشترك في لبنان إلى مصطلح للاستهلاك والمزايدة وفارغ من اي مضمون، والتفسير الواضح للكلمتين هو كالتالي:

 

أولاً، العيش يعني الحياة لا الموت، والسلام لا الحروب، والاستقرار لا عدم الاستقرار، والانتظام لا الفوضى، والبحث عن السبل الكفيلة بتأمين أفضل عيش ممكن (…).

ثانياً، المشترك يعني انّ المجموعات التي تتعايَش على أرض واحدة قرّرت الاتفاق على عناوين مشتركة، كما يعني ان الشرط المُلزِم للتعايش هو الاتفاق على مساحات مشتركة.

 

فلا تعايش إذاً بين طوائف ومجموعات لا تتّفِق على مساحة مشتركة، والتعايش لا يحصل بالإكراه ولا بالفرض، وعدم القدرة على التعايش ليست عيباً، والقدرة على التعايش ليست إنجازاً ولا رسالة، وأكبر إساءة للبنانيين، مسيحيين ومسلمين، تكمن في المتاجرة المستمرة بالتعايش منذ قرن إلى اليوم، وأكبر إساءة تكمن في الإصرار على نظام أعطى أسوأ صورة عن التعايش بين المسيحيين والمسلمين.

 

ومن قال أساساً انّ التعايش لا يتأمّن إلا بنظام سياسي معيّن، وهنا ينكشف أصحاب نظرية التقديس الذين لا يؤمنون بالعيش المشترك، ولكنهم يرفعونه إلى مرتبة القداسة دفاعاً عن نظام سياسي يؤمِّن مصالحهم الشخصية والمذهبية على المدى القصير، ويحقِّق هدفهم بالتخلّص من التعددية على المستوى البعيد؟

 

فالتعايش الفعلي هو في الاتفاق على النظام السياسي الذي يؤمن الاستقرار للبنان ويشعر معه كل مواطن لبناني بالأمن والطمأنينة ويمارس نمط العيش الذي يريده، وهذا يؤكد بأنّ التعايش منذ العام 1990 إلى اليوم غير مؤمّن بسبب التغييب المستمر للمساحة المشتركة المتمثِّلة بالدولة، وبسبب فرض فئة من اللبنانيين إرادتها على الفئات الأخرى.

 

وعلى رغم انّ الجمهورية الأولى نجحت لفترة زمنية في تقديم صورة مُشرقة عن لبنان، إلا انه عند أول منعطف او متحوِّل خارجي انفرطَ العقد الاجتماعي بين اللبنانيين، وهذا يعني ان الظروف القاهرة لا القناعة كانت خلف هذا النجاح، إذ في اللحظة التي تبدّلت فيها الظروف عاد الفشل سيد الموقف، كما يعني أيضاً ان هذا الإصرار على جَمع ما لا يجمع يشكل أكبر اعتداء على العيش المشترك.

وما يجدر قوله انّ العيش المشترك سقط في الجمهورية الأولى، وانّ الانقلاب الفوري على اتفاق الطائف لم يمنح العيش المشترك فرصة جديدة. وبالتالي، لا يصحّ الكلام منذ العام 1990 إلى اليوم عن العيش المشترك، واي كلام عن هذا الأمر هو كاذب وتضليلي، وما يصح الكلام عنه هو العيش بالإكراه والفرض والغصب في ظل فئة تريد دولة وسيادة ودستوراً وحياداً، وفئة تريد لبنان ساحة وملحقا بسوريا ومن ثم إيران، وتريد تحميل اللبنانيين مشاريع إقليمية دمّرت لبنان وتدمّره.

 

وماذا يعني العيش المشترك؟ العيش المشترك الفعلي والحقيقي يعني ان يكون لبنان مستقرا ومزدهرا، وان تعيش الطوائف من دون هواجس وجودية، وألا تشعر بأنها ملحقة بمشروعٍ لا يشبهها، وان يشعر كل مواطن بأنّ حقوقه مؤمّنة ومُصانة، فهل ما تقدّم مؤمّن في لبنان؟ بالتأكيد كلا، وهذا يعني انّ العيش المشترك غير موجود، وهذا يعني انّ نظامي الجمهورية الأولى والثانية فشلا في تحقيق العيش المشترك الفعلي، وانّ المدخل لهذا العيش تغيير النظام السياسي، وكل من لا يريد تغيير هذا النظام يعني انّ لديه مشاريع طائفية باطنية لتغيير هوية لبنان وتعدديته.

 

وبما انّ الجمهورية الثانية شكلت استمرارا للجمهورية الأولى، وبما ان العيش المشترك فشل في الجمهوريتين الأولى والثانية، لا بدّ من الانتقال إلى الجمهورية الثالثة شرط القطع مع ما سبقها وان تكون ولادتها جديدة، بمعنى نظام جديد على قاعدة لامركزية يُعيد الاعتبار للعيش المشترك الفعلي ويقدِّم صورة جميلة عن لبنان بدلاً من صورة التقاتل والتناحر والحروب والفوضى.

وإذا كان المطلوب الانتقال من التكاذب إلى المصارحة، فالعيش المشترك في نظام لبنان المركزي فشل فشلا ذريعا وشَوّه صورة لبنان واللبنانيين، وإذا كان هناك مَن حرص على إحياء العيش المشترك الفعلي والحقيقي فالمعبر الوحيد لذلك الانتقال من الجمهورية الثانية إلى الجمهورية الثالثة، والانتقال من النظام المركزي إلى النظام اللامركزي، وكل من يعارض هذا المسار يعمل علناً او ضمناً على تغيير هوية لبنان وضرب تعدديته.