العيش المشترك في لبنان هو ركيزة أساسية لصيغة الحكم التي تهدف إلى تحقيق التوازن بين مكونات المجتمع اللبناني المتعددة. شكّل الميثاق الوطني، منذ انطلاقته، إطاراً للحفاظ على التعددية وضمان احترام الخصوصيات الثقافية والدينية، إلا أن مساره تعرض لتشوهات جوهرية بعد عام 1990، ما أدى إلى أزمات متتالية هزّت النظام السياسي والاجتماعي في البلاد.
يوسف السودا، المفكر والسياسي اللبناني البارز، كان أحد أعمدة الدعوة للعيش المشترك. وُلد عام 1888 في بكفيا، وتلقى تعليمه في لبنان ومصر، حيث أسس “الاتحاد اللبناني” في الإسكندرية عام 1909 بالتعاون مع شخصيات بارزة كأنطون الجميل وميشال شيحا. كان السودا من أوائل المطالبين باستقلال لبنان، مدافعاً عن هويته التاريخية والجغرافية، ورافضاً لأي شكل من أشكال التبعية، سواء للانتداب الفرنسي أو الاتحاد مع سوريا.
تميز السودا برؤية شاملة للعيش المشترك، تتخطى الأطر الطائفية الضيقة، وتؤسس لدولة حديثة تقوم على المساواة والمواطنة. في عام 1938، عمل بالتعاون مع تقي الدين الصلح ونصري المعلوف وغيرهما على وضع صيغة ميثاق وطني للتعايش بين اللبنانيين، ما مهد الطريق للميثاق الوطني عام 1943. كما أسس حزب المحافظين اللبناني وجريدة “الراية”، مستخدماً هذه المنصات لنشر أفكاره حول ضرورة بناء كيان لبناني موحد ومستقل يقوم على احترام التعددية ويُعزز الانتماء الوطني.
لكن بعد اتفاق الطائف عام 1990، دخل مفهوم الميثاقية منحًى خطيراً نتيجة التفسيرات المشوهة لبعض مواده، لا سيما الفقرة (ي) من مقدمة الدستور التي تنص على “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. استُغلت هذه الفقرة لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الوحدة الوطنية، فتحولت الميثاقية من وسيلة لحماية التعددية إلى أداة لتعطيل المؤسسات وشلّ عملها.
برز هذا التشويه بوضوح مع صعود هيمنة “حزب الله” على القرار السياسي داخل الطائفة الشيعية، حيث أصبح الاحتكار الطائفي للمقاعد النيابية والوزارية وسيلة لفرض الشروط السياسية وتعطيل المؤسسات. بدلاً من تعزيز العيش المشترك، أفرز هذا السلوك انقسامات عمّقت الأزمات الدستورية وشككت في شرعية المؤسسات.
اليوم، وفي ظل الأزمات المتفاقمة، بات من الضروري إعادة النظر في مفهوم الميثاقية وتصحيح مسارها. يجب أن تستند الميثاقية إلى المواطنة الحقة التي تساوي بين اللبنانيين أمام القانون، بعيداً من الطائفية التي تمزق الحيز العام وتعرقل تطور البلاد. تجربة يوسف السودا تُلهمنا بأهمية العودة إلى الأسس التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وتعزز مفهوم الدولة المدنية القائمة على العدالة والمساواة.
الميثاق اللبناني، كما تصوره يوسف السودا وآخرون من رواد النهضة الوطنية، يجب أن يُعاد إحياؤه بروح جديدة تواكب تحديات العصر. إن تجاوز الأزمات الراهنة يتطلب نظاماً سياسياً يحترم التعددية ويؤمن بالمواطنة كقاعدة لبناء دولة مستقلة ومتطورة. تجربة السودا تمثل نموذجاً عملياً يمكن البناء عليه لإعادة صياغة عقد اجتماعي يحقق الاستقرار ويصون وحدة لبنان.