الفصل شتاء، والليالي شديدة البرودة، والبيت هو الملجأ الآمن بعد العمل، لأن بين الناس والمطاعم والمقاهي كثير من المحاذير: منها الخوف من تلوث الغذاء، والخوف من تلوث الأمن، والخوف من إنفاق ما خلَّفته الإنهيارات المتلاحقة من فلْس الأرملة والقرش في قبضة الفقير.
أنتَ والحال هذه، محكومٌ «بالتلفزيون» أنيساً في الليالي الموحشة، وإنْ رحت تقلّب الشاشات كلما أُتْخمت حلقاتها بالإعلانات، فلا تطالعك حيث التفتَّ إلّا المآسي الفواجع، متنقِّلَة معك من بلد عربي الى بلد عربي، ولا تقع عيناك إلا على ثياب مرقطة منتشرة كالزواحف على الأرض، ولم يسلم معها فمٌ من التلوّث بالدم.
شوارع العواصم العربية تكتظّ بالأسلحة الآلية والبنادق النارية والخناجر المسننّة للذبح، وهناك معارك، وجُثَث محترقة وأشلاء، ورؤوس بلا أجسام مبعثرة بين الركام.
وهناك أبناء بلا آباء، وأمهات بلا رجال، يهروِلْن بهلَع وعلى أكتافهن أطفال مذعورون، وهناك نساء لُصِقتْ على أكتافهن بطاقات أسعارهّن، السعر يتضاءل مع ارتفاع الأعمار، ويرتفع مع أعمار الأبكار.
هذا هو مشهد العواصم العربية بالمقارنة مع العواصم الغربية التي تكتظ بمن يمرحون ازدهاراً واستقراراً وسط معالم المدنية والحضارة.
وهذا هو مشهد العالم العربي الذي تقهقرت به الهمجيات الى أسوأ حقبات القرون الوسطى، وطغَتْ عليه شعائر دينية مزيفة، تكاد تتناغم مع أفكار بعض فلاسفة الغرب الذين وصفوا الإسلام بأنه «دين السيف وبالسيف انتشرت دعوته، ولغة الحوار فيه ومعه تظل لغة السيف».
لقد بات من المبتذل تكرار كل ما تكتنزه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من معاني القيم والرحمة والعدل والتسامح والمثل العليا ومكارم الأخلاق، في مواجهة الذين يحاولون أن يوقظوا بالسيف كوامن التاريخ وأن يسيَّسوا الدين ليتحوَل الصراع السياسي فيه الى صراع ديني ومذهبي.
هذا ما عانَتْه أوروبا من قبل في صراعاتها الدموية بين البروتستانت والكاثوليك، بما شهدت من مجازر تكفيرية عبر محاكم التفتيش، إلا أن الغرب استطاع أن ينتصر على أحداث التاريخ العنيف بالولوج المتطور في حضارة التاريخ.
تستطيع الأمم والشعوب أن تعيش ماضيها من دون أن تتجمّد مع حقباته التاريخية أو تعرقل حركة التطور، ويستطيع المسلمون والإسلاميون من الشعوب العربية أن يخرجوا من قوقعة التاريخ، وطبول حرب «الجمل» إذا عملوا بنصيحة «جمل» الغرب.
رحم الله الشيخ الإمام محمد عبده حين قال: «ذهبت الى الغرب فرأيت إسلاماً ولم أرَ مسلمين، ثم عدت الى بلاد المسلمين فرأيت مسلمين ولم أرَ إسلاماً».