ما يحدث اليوم من تحولات في المملكة العربية السعودية هو بلا ريب حدث تاريخي بالغ الأهمية، ويؤشر بوضوح الى ارهاصات نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة للمملكة في تاريخها المعاصر. وما تم اقراره رسمياً من رؤية مستقبلية هو دليل على صحوة وطنية لها طابع الحتمية التاريخية، لتحقيق اصلاحات جذرية والعمل على تصويب مسار بات يتعذر الاستمرار فيه لما ينطوي عليه من أضرار جسيمة وربما مصيرية. وصدور البادرة عن الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد ووزير الدفاع، ينطوي على دلالات موحية. منها أولاً، أن الأمير الشاب لو لم يكن صاحب شخصية تنطوي على مضمون قيادي وتغييري، لما صدرت عنه مثل هذه الرؤية. ومنها ثانياً، أن موقعه العائلي بوصفه نجل خادم الحرمين، وموقعه الرسمي في هيكلية الدولة، يساعدان على نقل الرؤية من مستوى الحلم الى حيز التنفيذ.
***
غير أن تجارب الحركات الاصلاحية الكبرى في التاريخ تشير الى وجوب توافر قدر كبير من الذكاء والتجربة لتجنب القيام بدعسات ناقصة قد تقلب النتائج المثمرة المتوخاة منها الى نقيضها، وربما تقود الى الانهيار، اذا تم اعلاء البناء بطبقات جديدة قبل تدعيم الأساسات وتوسيع قاعدتها. وربما تأتي قيمة التجربة قبل موهبة الذكاء في الترتيب والأولوية… وأية حركة اصلاحية مستنيرة كبرى في أي بلد عربي وبخاصة في مستوى مكانة المملكة عربياً واسلامياً وقارياً، سيصب خيرها العميم ليس فقط على الشعب السعودي الشقيق وأبناء الخليج بصفة خاصة، وانما سيعم فائضها على الأمة جمعاء، ويزيد في تحصينها ومنعتها، في مواجهة الأخطار والأطماع الخارجية والمعادية.
***
أبرز ما في هذه الصحوة السعودية المباركة هو اكتشاف حقيقة الخداع الخبيث والماكر في السياسات الأميركية على مر العهود، حيث تخفي أطماعها وأساليبها في استغلال الغير حتى استنزافه، وراء ستار مموه ظاهره التحالف والصداقة، وباطنه الهيمنة والسطو على ثروات الآخرين. صحيح أن هذه الصحوة السعودية تأخرت لسنوات وربما لعقود، ولكن الأهم أنها حصلت. وليس المطلوب هو استعداء أميركا، وانما التعامل معها بندّية وباعتزاز وطني وقومي. والسعودية قادرة بقواها الذاتية على أن تحقق الكثير على الصعيد الوطني، ولكنها قادرة على ما هو أكثر اذا ما نجحت في بناء تضامن عربي قائم على أساس الشراكة لا الاستتباع، ويحفظ الكرامة القومية على المستوى العالمي والانساني.
***
الخطر الأعظم الآخر الذي تواجهه هذه الصحوة السعودية الكريمة يأتي من اسرائيل. والدولة العبرية تضع ثقلها كله اليوم لاستدراج الصحوة السعودية الى شباكها، ليس لتستفيد منها السعودية وشعبها، وانما لامتصاصها وافتراسها، كما يحدث لأية فريسة تسقط في الشباك العنكبوتية. واذا كان التحالف مع أميركا هو الكحل، فإن التعاون مع اسرائيل هو العمى… ذلك أن الكحل يمكن ازالته أو استبداله، أما العمى فدائم! والغصة الكبرى التي تختنق بها اسرائيل هي أنها نجحت في فرض سلام منفرد على مصر، ولكنها فشلت في فرض التطبيع على شعب عظيم مثل الشعب المصري. وتريد اسرائيل اليوم وغداً، التعويض عن فشلها هذا بمعادلة جديدة: السلام البارد مع مصر في مقابل التطبيع الحار مع السعودية!
وللحديث صلة…
——-
ورد خطأ مطبعي في مقال أمس في كلمة الانفاع والصواب هو الاندفاع.