Site icon IMLebanon

«الحرب الباردة الثانية» بدأت من سورية

الدعوات الأميركية والغربية إلى ضبط النفس وعدم تصعيد التوتر بين تركيا وروسيا بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية عند الحدود التركية – السورية، لا يمكنها إخفاء ارتياح واشنطن وحلفائها لهذه الصفعة المتعمدة، بعدما تمادت موسكو في تجاهل الدعوات المتكررة إلى التركيز أكثر في حملتها الجوية والصاروخية على «داعش» بدلاً من قصف مواقع المعارضة السورية المعتدلة، وتصرفت كما لو أن «الساحة» السورية متروكة لها وحدها من دون سائر اللاعبين الإقليميين والدوليين.

يمكن اعتبار هذه المواجهة المحدودة نقطة انطلاق لمرحلة من الكباش غير المباشر بين الولايات المتحدة وروسيا، بانتظار تبلور الرد العملي الروسي على «الطعنة في الظهر» والذي بدأ يظهر تباعاً، مثل قرار نشر منظومة صواريخ «اس-400» المضادة للصواريخ وإرسال المزيد من السفن الحربية إلى الساحل السوري، بل هي استعادة لـ «الحرب الباردة» بين الكتلتين «الغربية» و «الشرقية» التي انتهت بهزيمة الثانية وتفكك زعيمها السوفياتي وتفرقه دولاً وانتقال بعض معسكره إلى الضفة المنافسة.

لكن الحرب الباردة الأولى التي استمرت نحو خمسين عاماً كانت تجرى تحت شعار واسع هو المفاضلة بين الرأسمالية والاشتراكية، وما يتفرع عنهما من حريات سياسية وفكرية وحقوق إنسان، وكانت الدول المشاركة فيها تنتمي إلى إحدى هاتين المنظومتين الاقتصاديتين، على رغم التفاوت في درجة اعتمادها بين دولة وأخرى في كل معسكر.

أما اليوم فلم يعد هناك دول «اشتراكية»، ولا كتلة متجانسة سياسياً حتى، يمكنها أن تمثل «الشرق». هناك روسيا التي صارت رأسمالية، والصين التي لا يزال يحكمها حزب شيوعي لكنها تبنت اقتصاد السوق ومفهوم الملكية الخاصة المتناقض مع مبادئه النظرية، وانغمست في مسار مختلف يستند إلى الاستقرار العالمي، وهناك بعض دول «حلف وارسو» السابق التي لا وزن اقتصادياً أو سياسياً كبيراً لها، والتي لا تزال قريبة من موسكو.

أما حليفة الروس المستجدة، إيران، ففيها نظام ديني ما زال مرشده خامنئي، منذ كان رئيساً للجمهورية الإسلامية، معجباً بحافظ الأسد وكيف كان يقيم علاقات جيدة مع موسكو لكنه يفاوض واشنطن سراً، واسرائيل في شكل غير مباشر، في كل تحركاته الإقليمية. وها هي طهران تستقبل بوتين بحفاوة وتبرم معه عقوداً وصفقات بعضها لأغراض سياسية، لكنها سلمت زمام ملفها النووي إلى الولايات المتحدة بانتظار رفع العقوبات عنها والتفاوض معها على دورها الإقليمي.

أما الذي تغير في «الحرب الباردة» الجديدة فهو أن الصراع لم يعد يجري تحت اللافتة الاقتصادية، بل تبنى «الشرقيون» الروس شعارات أخرى أهمها القومية وما يتبعها من انتماء عرقي وصلات لغوية وثقافية، يستخدمونه سلاحاً للتعبئة (في الداخل الروسي) أو لتغطية التوسع الخارجي (في اوكرانيا وجورجيا مثلاً) بعيداً جداً من «حقوق العمال والفلاحين وكادحي البروليتاريا». أما طهران فتستخدم الغطاء الديني (المذهبي) لتبرير دعمها مجموعات بعينها في دول الجوار ومدّ نفوذها الإقليمي.

ما يجمع بين دول الحلف الجديد ليس المصالح السياسية او الاقتصادية وحدها، وهي مصالح ستصل في أي حال إلى التضارب في المدى البعيد، بل الرغبة المشتركة في تقاسم المناطق «الخالية» نتيجة الانكفاء الأميركي المتدرج من منطقة الشرق الأوسط وارتباك إدارة اوباما في التعامل مع مستجداتها قبل إنجاز انسحابها، مثل تخبط وبطء قراراتها في شأن مواجهة «داعش».

واذا كان الغرب الذي قبل بالتدخل الروسي في سورية محاولاً تصويبه، سيضطر إلى الرد على أي خطوات تصعيدية تتخذها موسكو، فإن ذلك سيعني حتماً تمديد الحرب السورية بعدما أبدت واشنطن تفاؤلاً زائداً عن اللزوم بإيجاد حل سياسي قريب، وهو ما عنته المستشارة الألمانية مركل عندما تحدثت أمس عن «تأزم الحل» بعد سقوط القاذفة الروسية.