في زمننا هذا، في زمن «العهد» الحالي، في غمرة المشهد الوطني الكارثيّ، في اللحظة الأكثر سوداويّة من تاريخ لبنان، في عيشة الذلّ والمَهانة، في ظلّ أجواء الخيارات الخارجية المُدمّرة على حساب القرارات الوطنية المُفيدة، تأتي مقالتي هذه لتتطابق مع الواقع والمُرتجى.
بالمنطق الإنسانيّ العاديّ وبطبيعة الحال، الإنهيار يُمثّل حدثاً مُؤلِماً مليئاً بالدمار والدماء والموت، أمّا الإنهيار لسلطةٍ فاسدة، فاشلة، فاقدة للقيم الإنسانية والعلمية والكفائية والمواطنية، فللإنهيار معنى مُعاكساً تماماً، فهو النهاية للسواد والتّأخّر، وإضاءة لشعلةٍ «تُنير قيام وطن».
لا شك بأنّ المقدّمة كافية للتعبير عن المقالة، ولكن حقيقة المقالة غير ذلك، لأنّها ليست «صبّ الزيت على النار» وليست تأجيجاً للعصبيّات المجنونة، بل هي مجموعة من التّساؤلات الطبيعية والعادية والواقعية، التي إنْ قاربناها بموضوعية أدركنا الحاضر وتوقّعنا المستقبل.
لماذا انهيار سلطة ؟؟؟
لأنّ سلطة تُعادي شعبها ويُعاديها شعبها، لا تثق به ولا يثق بها، تكذب عليه ويُكذّبها، تخوِّنه ويشكّ بنواياها، أليس ذاك انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة تعمل على كسب الوقت القاتل لمستقبل الوطن، لتمكّن نفسها، ولتتمكّن من قتل الروح الوطنية الديمقراطية للشعب اللبناني المُتجذّر في وطن الحريّات، وطن الأرز، فترفّع عليه روح التّبعية والزبائنيّة، أليس انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة تدفع بشبابها إلى فقدان الثقة بالمستقبل والحياة والوطن، وتغلق بتسوياتها الخبيثة مُحاولاته لِتأسيس حياة وطنية كريمة، فيلجأ إلى المواجهات والنار والخراب بدلاً عن الطموح والعيش والملاهي والنوادي والمدارس والجامعات والتّطور والإبداع، يتمدّدون يومياً على الطرقات ويحتلّون بأجسادهم الساحات، أليس ذاك انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة بظلامتها، تُشجّع شعبها على مواجهة قهرها له، بالسلبية والرفض وبالكره والعدائيّة، مُبرّرة بذلك اتّهامها له بممارسة الإرهاب، لِيَسهل عليها قمعه وإسكاته، أليس الأمر انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة تضع الأجهزة الأمنية الوطنية، المولجة أساساً بالدفاع عن الوطن والحدود والشعب، بوجه شعبها البريء المُنادي بالمُساوات، يُسحب ناشطوه من الساحات بوحشية تامّة، ويُستدعى مُحرّكوه إلى المخافر والتّحقيقات المُذلّة، ويُجبر شبابه على توقيع إفادات الإستسلام والخضوع والركوع، أليس الأمر انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة تستعمل أجهزتها لكلّ ذلك، بدل دعمِها بالغطاء السياسي لضبط الحدود والتهريب وتوقيف المُهرّبين والسارقين الكبار والبلطجيّة المحمييّن، أليس ذاك انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة لا سلطة لها حيث يجب، أي في المرافىء والمرافق والمؤسسات والصناديق، سلطة تُخبّىء ضعفَها أمام المخالفين النافذين، بالإقتصاص من المعارضين البريئين، أليس الأمر انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة تستقوي على المنتفضين لنصرة الكرامة الوطنية، بأزلام السلطة غير الشرعيّين، أسوأ أنواع البشر، الفائضي القوة الوهمية، والكيدية، والسلطوية الهمجية، سلطة باستِماتتها للإستمرار، تقوّض بقاء الوطن، وتُحقق أهداف أعداء وطن الأرز وأعداء المواطنية اللبنانية، سلطة تُحارب قطاعاتها المُنتجة والناجحة والإستثمارية، لِتبيح الدولة للجماعات الريعيّة الخالية من الإنتاجية، سلطة مفلسة مُنعزلة، يُرشدها فكرٌ عقيم مُتأخّر مُلتزم بعقيدة مُتحجّرة، ضد سياسات لبنان الصديقة مع الدول المُتطوّرة والمتمدّنة والداعمة، سلطة تُخضِع أسواقها لأبطال السوق السوداء المُبيّضين للأموال الوسخة والمُهرّبين على المعابر الشرعية وغير الشرعية، والمُتحكّمين بالحدود والمرافق العامة، سلطة تسمح لقواها الفاسدة باستغلال قطاعات الدولة من كهرباء وطاقة واتّصالات، أليس كل ذلك انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة رسمت توجّهها السياسي وتحاول فرضه على الشعب، وجهتها النظام السوري والعراقي والإيراني مع كل ما يحمل هذا التوجّه السياسي من ذلّ لشعوب هذه الدول وتعتير وفقر، سلطة تخلّت عن أصدقاء لبنان وعن التطور والحضارة والمدنيّة، أليس الأمر انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة تتخلّى عن قطاعاتها الخاصّة الناجحة وتمتصّها وتُدمّرها، سلطة تسعى لتأميم كلّ القطاعات كي تمتلك العاملين الأساسيّين للاستمرار في السلطة وهما المال والعسكر، مُراهنةً على قدرتها بقمع الشعب والقطاعات المالية والمصرفية والعسكرية والأمنية والشعبية والمدنية، أليس كل ذلك انهيار سلطة ؟؟؟
سلطة استبدلت تعاليم شارل مالك الإنسانية ودعواته إلى الحريّات الشخصيّة والمجتمعيّة المسؤولة، وتصوّره لدور لبنان في التّطور البشري والإزدهار التّعايُشيّ وفي وضع قيَم الأمم المتحدة وشرعتها لحقوق الإنسان، إستبدلته بإرشادات «سيّد» مُؤمن بالحرب ثمّ الحرب ثم الحرب، الخارجية والداخلية، من أجل نصرة التّسويات الإيرانية، أليس الأمر انهيار سلطة ؟؟؟
نعم، تُثبت السلطة الحاكمة لِلبنان، يوميّاً، بأدائها وخطابها وقراراتها بأنّها حسمت أمرها بالتمسّك بمشروعها الفاشل مهما حدث ومهما كان هول الإنهيار، فتُلاعب شعبها بلعبة «الروليت» وتُماشِيه على حافّة الهاوية مُدرِكة أنّها ساقطة، منهارة، ولم يعد لها أمل الاستمرار في السلطة إلّا باستغلال التّجاذبات الإقليمية والاحتماء بالسلاح غير الشرعي، تأخذ الشعب اللبناني رهينةً للتّفاوض مع المجتمع الدوليّ، لعلّها تنال بعض الأموال لتمويل فسادها وسلطويّتها.
أمّا قيام وطن، فالقيامة لا تحدث باستبدال حكومة بأخرى، بل القيامات تحلّ على الناس والشعوب بتغيير العقول والأفكار والضمائر، إنّه التغيير المنشود في الذهنيّة الحاكمة والانتقال إلى دولة المؤسسات، إلى وطن المواطنية الصحيحة، إلى وطن الدولة والإدارة الشفّافة، إلى وطن حقّ الوصول فيه للمعلومات مُتاح للشعب، والقضاء فيه كما أجهزة التّفتيش، مُستقلّة وقادرة على مُقاضاة الرؤوس الكبيرة، وطن المواطنية فيه هيَ بالفعل مصدر السلطات، يُمارسها الشعب من دون خوفٍ ومن دون حاجة لاسترضاء أحد، فالمواطن ينال حقوقه من دون مِنّةِ من أحد.
وطن يُشارك فيه القطاع الخاصّ مع القطاع العام بمسؤوليّات النهضة الاقتصادية وتحقيق النموّ، يخضعان سويّاً للرقابة والتّفتيش والمُساءلة، وطن «صاحب الرزق» فيه، هو المواطن، وهو الحارس على المؤسسات والمنشآت والمصالح العامّة، وطن المنافسة فيه إيجابية، أي نحو التطور والإزدهار والبناء، وليست سلبية، نحو التّحطيم المُتبادل المدمّر لكلّ شيء، وطن لا مرجعية فيه إلّا مؤسسات الدولة، ليس الأقوياء في سلطاتهم والضعفاء في حكمهم وإدارتهم، وطن الجمهورية القوية، وقائدها القوي بحكمته ورؤيويّته، ليس وطن المزرعة القوية، ورئيسها المُتباهي بعظمته والمستسلِم أمام أنانيّته وسلطويّته.
المعادلة واضحة، إنهيار سلطة… قيام وطن… لبناننا الجديد.