بعد خطة الحكومة الإصلاحية التي أُطلقت في زمن كورونا، بات من المستحيل التحدث عن ثقة للمجتمع الدولي بالمجتمع السياسي اللبناني وعلى رأسه الحكومة التي تتفاوض مع صندوق النقد الدولي ويشاركها في هذه المفاوضات مصرف لبنان.
وقد تكون الأزمة الأكبر التي ستُفقد ثقة المجتمع الدولي بلبنان هي تلك الضربة الكبرى التي نتوقعها للإيرادات غير المنطقية التي اعتمدتها الموازنة التي صادَقت عليها الحكومة الحالية وتعتمد بشكل كبير على مضمونها، وهذا ما كان واضحاً في الخطة الإصلاحية المطروحة.
وإذا أردنا النظر إلى الأرقام المتوقعة للإيرادات في العام 2020 كما هو واضح في الصورة رقم 1، فإنَّ هذه الإيرادات بعيدة كل البعد عن حقيقة ما هو متوقع منطقياً للعام الذي دخلنا فيه ونحن نعاني من أزمة مالية، تبعها أزمة اقتصادية، علماً انّ كِلتي الأزمتين تتعايشان مع جائحة كورونا العالمية.
وفي مضمون الإيرادات المتوقع قد تكون الإيرادات غير الضريبية الأقل تأثراً والتي تساوي 3429 مليار ل.ل. في المقابل، لا بد من الوقوف أمام حقيقة مرة تتمثّل بتقدير العائدات الضريبية سواءً كانت المباشرة أو غير المباشرة والواضحة في الصورة رقم 1.
تقديرنا لهذه العائدات أن تنخفض بنسبة تتراوح بين الـ50 والـ60 %، في وقتٍ ستنخفض الإيرادات غير الضريبية بنسبة تتراوح بين 25 و35 %. هذا الإنخفاض الحاد في الإيرادات سيؤثر بنسبة تتراوح بين 43.5 % إلى 53.6 %، مما يعني أننا أمام عملية خسارة قرابة نصف الإيرادات بحسب التقديرات الحالية والقابلة للزيادة في ظل تنامي الأزمات المالية والإقتصادية المحلية مع ارتفاع التضخم وزيادة الإنكماش، وإنّ الأمرين قابلان للتعقيد لا للعلاج أقله على المدى المنظور.
كما ذكرنا أعلاه، حتى اليوم نحن معرضون لخسارة قرابة نصف الإيرادات للعام 2020، فماذا يعني هذا الأمر؟
هذا الأمر في قراءة أولية له يعني أننا دخلنا ولأول مرة في موازنة عامة لا تستطيع أن تغطّي رواتب وأجور القطاع العام، والتي تساوي قرابة 9935 مليار ل.ل. دائماً بحسب الموازنة التي أصدرتها ووضعتها الحكومة السابقة وتعمل على تنفيذها الحكومة الحالية مع احتمالية إصدار مراسيم تعديلية على بعض بنودها. ولكن، ولكي لا تضيع البوصلة، هذا الأمر لا يؤثر على عملية دفع الرواتب والأجور للقطاع العام، ولكن الإضاءة على هذه الأرقام تأتي فقط للوصول إلى حقيقة واقعنا المالي الحالي في ظل تدهور العائدات. فما هي حقيقة واقعنا المالي الحالي في ظل تدهور الإيرادات؟
إنَّ الواقع المالي الحالي يُنذر بزيادة الهوة بين النفقات والإيرادات في بادئ الأمر، ولكن هذه المرة بنسبة عجز ستتخطى الـ100 % من قيمة الإيرادات، أي وبعبارة أوضح، لن تستطيع الحكومة اللبنانية في العام 2020 أن تؤمّن نصف نفقاتها، لأنّ إيراداتها لن تزيد عن 7700 مليار ل.ل. وهنا، وإذا ما أردنا اعتماد الدولار بحسب تقديرات الحكومة اللبنانية في خطتها الإصلاحية أي 3500 ل.ل. للدولار الواحد، فإنَّ واردات الدولة اللبنانية للعام 2020 ستساوي قرابة 2.2 مليار دولار. فماذا يعني هذا الأمر؟
هذا الأمر يعني أننا دخلنا مرحلة جديدة في تاريخ لبنان يجب أن نقف أمام الشعب اللبناني للاعتراف بها، ألا وهي أن لا مكان للإصلاح في أرقامنا، وأننا اليوم نحتاج إلى عملية إنقاذ تنتشلنا من الإنهيار الذي نحن فيه، لا خطة إصلاحية تعدنا بأرقام خيالية، لا مكان للحقيقة في مضامينها لأنها تستند إلى إيرادات بعيدة كل البعد عن حقيقة الواقع المالي اللبناني، ومن هنا يبقى الحل الأوحد للخروج من هذا الإنهيار هو التالي:
1 – الإستدانة من صندوق النقد الدولي لإنماء الإقتصاد وضَخ الأموال في الاستثمار المحلي من دون أن نضع أيّ استثمار في قطاع الكهرباء الذي يجب أن يخرج من نفقات الحكومة إذا ما أرادت أن تكون صادقة مع الشعب اللبناني، وبالتالي إطلاق يد الإستثمار الخارجي الكُلي على غرار العرض الصيني المقدّم إلى الحكومة.
2 – التوقف عن محاولات استعادة العمل بمضمون مشروع سيدر الذي تمّ بتوافقات سياسية وتضمّن مشاريع تنفيعية لمجموعات محسوبة على الأحزاب التي روّجت للمؤتمر، ولا يتضمن أي رؤية استثمارية إنتاجية.
3 – الإستدانة لتأمين الاستيراد على أساس الدولار 1507 ل.ل. للدولار الواحد بالنسبة لكل ما يختصّ بالمواد الأساسية للمواطن وإطلاقها في الأسواق تحت شعار الأرزة الوطنية على كل منتج، على غرار عنوان السلة الغذائية التي ما زالت شعاراً ليس له في أروقة التنفيذ مكان.
4 – الجرأة في النظر في التوظيفات العشوائية التي تمّت على أساس محسوبيات سياسية وشَطبها من القطاع العام، وشَطب عضوية كل نائب محسوب على تيار سياسي قام بتوظيف مناصرين له في دوائر إنتخابية، أثّر فيها حجم هذا التوظيف على نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة، واسترداد كافة المخصّصات التي نالها هذا العضو في البرلمان بناءً على هذه العملية التي تعد رشوة إنتخابية. ويتم هذا الأمر من خلال دراسة بسيطة لتأثير التوظيف السياسي على نتائج الإنتخابات في كل دائرة انتخابية من خلال دراسة اللوائح التي أبرَزها النائب جهاد الصمد على الإعلام خلال مداخلته ضمن أحد البرامج التلفزيونية.
5 – إطلاق يد القطاع الخاص في الاستثمار في الأطراف من خلال تطبيق اللامركزية الإقتصادية، ووضع آلية حكومية مع مصرف لبنان تساهم في تسهيل استيراد المواد الأولية على أسس علمية لا عشوائية.
6 – فتح باب قطاع الإتصالات أمام الشركات العالمية وعدم حصره في حدود الزواريب الضيّقة، واستعادة الهِبات التي قدّمها هذا القطاع إلى الجمعيات المحسوبة على سياسيين ونافذين في السلطة اللبنانية.
7 – والأهم هو في هذه النقطة الأخيرة، إطلاق يد القضاء النزيه بغطاء أمني يسمح بمحاسبة من أوصَل الوطن إلى هذا الانهيار في محاكمات علنية.
اليوم نحن أمام واقع الإنهيار لا محالة، ولكن السقوط في عالم الأرقام ليس بحتمي، فلا بد من التوقف أمام الأبعاد الحقيقية لهذا الإنهيار الذي وصلنا إليه من جهة، وذلك من خلال قراءة الواقع الذي عرضناه أعلاه وليس ما تتمنّاه الحكومة في خطتها الإصلاحية، والعمل من جهة ثانية على كيفية تَداركه من خلال طروحات علمية-عملية لا مكان للشبهات السياسية فيها.