Site icon IMLebanon

أيلول “طرفه” بالانهيار “مبلول”

 

العصيان الضريبي يتقهقر أمام أسوار طباعة العملة و”تَمْسحة” السلطة

 

 

 

مواجهة السلطة بكل ما من شأنه تقويض صلاحياتها، كسر هيبتها وإضعاف مصادر تمويلها، مرتكزات ثلاثة شكلت منطلقاً لثورة تشرين. جمهور واسع من المعترضين، وفي مقدمهم رجال الاعمال واصحاب الشركات قرروا العصيان الضريبي، بعدما بلغ “سيل” الانهيار “زُبى” اقفال المؤسسات وصرف العمال. فهل تنجح هذه التجربة وتحث المسؤولين على تغيير النهج؟

 

قد يكون الانعكاس المعنوي لمثل هذه الخطوة أكبر بكثير من النتائج التي يمكن تحقيقها على أرض الواقع. ليس لان السلطة “تَمْسحت”، بل لاطمئنانها إلى قدرة مصرف لبنان على طباعة العملة، وتغطية نفقاتها التشغيلية بعدما توقفت عن الاستثمار ودفع الديون. فالتراجع في الايرادات الذي سيظهر جلياً في النتائج المالية نهاية العام نتيجة تعطل الأعمال، واقفال المحال والمؤسسات وانفجار المرفأ وتراجع الاستهلاك، يُعوض عنه مصرف لبنان بطباعة 1.5 تريليون ليرة شهرياً. ما يسمح للدولة باستمرار الوقوف على قدميها الهزيلتين رغم التضخم الذي تسببه زيادة الكتل النقدية.

 

“إطلاق النار على القدم”

 

من شأن العصيان الضريبي إسقاط أنظمة وإلحاق خسائر فادحة في مالية الدول، خصوصاً بعدما تحولت الضرائب إلى أداة اساسية في تأمين الايرادات ورسم السياسات الاقتصادية. إلا ان في لبنان الوضع مختلف، إذ انه بالاضافة إلى طباعة العملة، فان الضرائب غير المباشرة مثل TVA تشكل النسبة الاكبر من الوعاء الضريبي. ومع ارتفاع الاسعار بالليرة اللبنانية فان عوائد هذه الضريبة سترتفع حكماً حتى لو تراجعت الكميات المستهلكة. من جهة أخرى تشير مصادر صناعية إلى انه “ليس من مصلحة أي مؤسسات تستورد من الخارج سواء كانت صناعية أو تجارية أو زراعية أو خلافه التوقف عن دفع الضرائب. لان ذلك يعني ايقاف بياناتها الضريبية والجمركية ويفقدها القدرة على ادخال مستورداتها عبر المرافئ اللبنانية”. وبرأيهم فانه “حتى بالنسبة إلى الشركات التي تعتمد على موردين داخليين وتؤمن متطلباتها من السوق المحلية، فهي تحتاج إلى براءة ذمة، من البلدية والضمان والمالية، تُثبت تسديد كل متوجباتها الضريبية، من أجل تجديد رخصها السنوية واتمام معاملاتها الادارية. والأمر ينطبق ايضاً على الشركات التي تريد الخروج من السوق نهائياً. فهي لا تستطيع الاقفال الا بعد تسديد كل متوجباتها أمام الدولة”. بخلاصة العبارة فان التوقف عن دفع الضرائب والرسوم يشبه “من يطلق النار على قدمه”، وليس من مصلحة أي مؤسسة ما زالت تعمل وتنتج ان تأخذ مثل هذه الخطوة المتهورة التي تودي بها وبعمالها.

 

العصيان يفتقد للآليات التنفيذية

 

التهديد بالعصيان الضريبي بدأ في 11 كانون من العام 2019 عندما وصل سعر صرف الدولار إلى 2000 ليرة لبنانية واضطرت المؤسسات إلى صرف نحو 160 الف عامل وحرمان أكثر من 300 ألف من معاشات كاملة. فاجتمع تحت قبة “مبنى البيضة” في وسط بيروت المئات من أصحاب العمل والعمال. لسان حالهم وقتذاك كان ان عمالهم أحق بالاموال من تسديد الضرائب التي تذهب هدراً وسرقة. إلا ان الخطوة لم تجد آلياتها التطبيقية واقتصر العصيان على التوقف عن سداد القروض المصرفية.

 

اليوم وبعد مرور نحو 8 أشهر الامور لم تتغير كثيراً، رغم ارتفاع سعر صرف الدولار من 2000 ليرة إلى 8000. وبحسب رجل الاعمال مارون شراباتي فان “الافراد والمؤسسات تأقلمت نسبياً مع الواقع. ساعدها في ذلك تراجع المصاريف نتيجة اجراءات الحجر التي فرضها كورونا، وتحريك المغتربين العائدين العجلة الاقتصادية في العديد من المناطق ودعم مصرف لبنان للعديد من السلع الاساسية”. إلا ان المشكلة التي تواجه المؤسسات بحسب شراباتي تتمثل “في التحول الاجباري نحو الاقتصاد النقدي القائم على الدولار. وهو ما يعني ان المؤسسات مضطرة ان تبدأ من الصفر”.

 

المشكلة التي ظلت خابية تحت رماد الحجر، وانفاق المغتربين، وتدفق المساعدات الدولية بعد انفجار المرفأ، واستمرار دعم المواد الاساسية، واصدار الدولة مهل تمديد لتسديد المتوجبات الضريبية والقروض المصرفية “ستنفجر مع بداية هذا الشتاء”، يقول الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين. “حيث من المتوقع ان تعمد مئات المؤسسات السياحية من فنادق ومطاعم إلى اقفال ابوابها وصرف عشرات الآلاف من عمالها”. وبرأي شمس الدين “إذا اضفنا هذه الارقام على توقعاتنا بقدوم 200 ألف لبناني يعمل في الخارج نتيجة التراجع الاقتصادي في الدول التي يعملون فيها، فان عدد العاطلين عن العمل سيصل إلى المليون في نهاية العام، من أصل مليون و600 ألف عامل في القطاعين العام والخاص. واذا اعتبرنا ان عدد العاملين في القطاع العام يبلغ نحو 300 ألف فان مجمل القوى العاملة في القطاع الخاص ستنخفض من حدود مليون عامل إلى 300 ألف فقط”.

 

هذا الواقع المرعب سيجعل من تقرير “الاسكوا” الذي قدّر نسبة الفقر بـ 55 في المئة متفائلاً. وبحسب شمس الدين فان “نسبة الفقر سترتفع أكثر بكثير. ذلك ان دراسة الاسكوا تعتبر ان الحد الادنى للفقر هو 14 دولاراً في اليوم. وهو رقم مرتفع سواء احتسبناه على سعر الصرف الرسمي أو سعر السوق. فيما نسبة الفقر الحقيقية تتحدد بالعائلات التي تعيش بدولار واحد في اليوم”.

 

من بعد تحذير الامم المتحدة من مجاعة في لبنان وتوقع بنك اوف أميركا وصول الدولار إلى 46500 ليرة، ها هو وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، في حديث لإذاعة “آر تي إل” يصرح بأن “الخطر اليوم هو اختفاء لبنان”. توقعات من غير المستبعد ان تصح في ظل استمرار نهج التقاسم والتحاصص السياسي ولو على “جثة” البلد.