شبّه وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، في مقابلة نشرتها صحيفة «لوفيغارو» المشهد الدرامي الذي يتخبّط فيه لبنان بغرق مركب «التيتانيك» بقوله «اللبنانيون يغرقون في حالة انكار تام، ولا توجد حتى الموسيقى»، ويؤشر هذا التوصيف إلى حالة الشؤم وفقدان الامل التي اصيب بها المسؤولون الفرنسيون، بقدرة اللبنانيين على تجاوز انقساماتهم ومصالحهم الضيقة للتجاوب مع متطلبات المبادرة الإصلاحية التي أطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون في أيلول الماضي، والتي تبدأ بالتوافق على تشكيل حكومة إصلاحية تكسب ثقة الخارج لتأمين تدفق القروض والمساعدات اللازمة لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي والمالي، ومنع تشظي مؤسسات الدولة وسقوطها.
يأخذني كلام الوزير الفرنسي سنوات عديدة إلى الوراء عندما وصف دبلوماسي أميركي متخصص في الشؤون اللبنانية الوضع في لبنان بأنه قد تخطى توصيفات «الدولة الفاشلة» ليبلغ حالة «اللادولة»، مع كل ما يعني ذلك من غياب شبه كلي لمؤسسات الدولة القادرة على ضبط الأمن، وإدارة الموارد الاقتصادية، وتقديم الخدمات العامة، والرعاية الاجتماعية للسكان. ولكني وخوفاً من اتهام البعض لي «بجلد النفس»، فقد توسعت في ابحاثي عما وصلت إليه الحالة اللبنانية من سوء أحوال الحكم، فوجدت بأن بعض مؤسسات الدراسات الغربية المحترمة قد صنفت لبنان كدولة فاشلة بين ما يقارب 25 دولة شملها هذا التصنيف.
للأسف الشديد، فقد اسقط السياسيون اللبنانيون خلال خمسين سنة من الانقسامات السياسية والطائفية، وخدمة مصالحهم الخاصة وفسادهم في إدارة الشؤون العامة، الحلم الذي راود اللبنانيين في مطلع سبعينيات القرن الماضي بتحويل بلدهم إلى «سويسرا الشرق». لقد ذهب هذا الحلم دون رجعة، حيث بدأوا بتدميره وتبديده من خلال انخراطهم في «حروب الآخرين» على أرض لبنان، وفق توصيف الراحل الكبير غسّان تويني. ودامت هذه الحروب فترة تزيد على عقد ونصف، والى حين تبلور إرادة عربية ودولية بضرورة توقيع عقد مصالحة بينهم، عرف باتفاق «الطائف»، والذي اوكل أمر تنفيذه للنظام السوري، الذي مارس وصايته الجائرة والفاسدة، في إدارة شؤون البلاد، من خلال استحضار امراء الحرب وقادة الميليشيات ليكونوا حكام لبنان الجدد، فامعنوا في تخريب ما تبقى من مؤسسات، ونهبوا بالاشتراك مع قوات الوصاية خيرات البلاد إلى ان أتوا في نهاية المطاف إلى سرقة مدخرات الشعب وحلمه بالمستقبل.
لا بدّ من الاعتراف بأن اتفاق الطائف لم ينجح في إخراج لبنان من محنة النظام الطائفي الذي تسببت انقساماته السياسية، والتي ترجمت بدفعه إلى الحروب الطويلة والمدمرة التي شهدها، إلى بر الأمان من خلال إرساء قواعد الاستقرار لنظام جديد، يتساوى في ظله جميع اللبنانيين في الواجبات والحقوق. لم تنفع كل المحاولات التي بذلت دولياً وعربياً لإنقاذ لبنان، حيث استمرت حالات الفشل السياسي والاقتصادي، كما استمر تفكك مؤسسات الدولة في ظل تعميم حالة الفساد التي لم تقتصر على الافرقاء السياسيين بل تعدتهم لتصيب جميع الطبقات والفئات الأخرى، حتى أضحى الفساد صفة عامة وشاملة.
أثبتت حالات الفشل السياسي والاقتصادي والأمني التي شهدها لبنان في ظل دستور الطائف، أثناء الوجود السوري، وبعد رحيله عن لبنان عام 2005، بان الطائف لم ينجح في إرساء قواعد دولة متوازنة ومستقرة، وان كل ما حققه لم يتعدَ كونه سلسلة من تقاطع المصالح بين مختلف الطوائف والافرقاء السياسيين، في ظل هيمنة، واضحة ودائمة لحزب الله، ومعه محور المقاومة والممانعة، والذي يستمد عمقه الاستراتيجي من خلال تحالفه مع النظامين الإيراني والسوري. لكن هذا لا يعني إطلاقاً بأن انزلاق لبنان إلى مصاف الدول الفاشلة يعود إلى الصراع الخارجي على ارضه بين قوى خارجية: إقليمية أو دولية، وهو الأمر الذي درج عليه اللبنانيون، وذلك في محاولة لاخفاء حالة الانكار لمسؤولياتهم عن تبعات الفشل السياسي والأمني والاقتصادي الذي صنعته أيديهم.
لو راجعنا كل الأبحاث المنشورة حول أسباب فشل الدول لوجدنا نادراً ما يمكن ربط الفشل بالصراعات الخارجية، فالاسباب في مجملها تعود عادة للانقسامات الداخلية، والتي غالباً ما تنتهي بتشظي بنية الدولة والمجتمع من الداخل، بالإضافة إلى غياب الحوكمة الرشيدة، مع تعميم شامل لآفة الفساد الكلي.
صحيح انه لا يمكن ان تتشابه الدول الفاشلة، حيث تختلف أسباب وعناصر الفشل بين دولة وأخرى، بالإضافة إلى التعقيدات الناتجة عن التشابك الحاصل بين العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ويمثل لبنان في رأينا، مثالاً خاصاً للدول الفاشلة، وذلك نظراً لامتداد عوامل الفشل وتساقطاتها السامة على فترة طويلة تزيد عن خمسة عقود، وهذا ما أكدته مختلف الحروب والأحداث الأمنية الكبيرة المتنقلة بين المدن والمناطق اللبنانية. كما أكدته الأزمات السياسية المتفاقمة التي هزّت قواعد النظام والصيغة، والتي اتخذت طابع الفراغ في المؤسسات الدستورية أو طابع الأزمات الطويلة وشبه المستعصية على عمليات تشكيل الحكومات المتعاقبة، وخصوصاً تلك التي جرى تشكيلها في ظل دستور الطائف، وان ما نشهده اليوم من تجاذبات سياسية في عملية تشكيل حكومة يفترض ان تكون إصلاحية لخير دليل على عمق الأزمة السياسية التي تعصف بالنظام.
اما عن الفشل الاقتصادي والمالي والاجتماعي فحدث ولا حرج، حيث أدى سوء الإدارة للمالية العامة، وغياب خطط التنمية المتوازنة إلى تبديد المال العام – ومعه الودائع المصرفية – وتسبب بالتالي بافقار أكثرية الشعب اللبناني، حيث بات من المتوقع ارتفاع نسبة الفقراء من 50 إلى 70 في المائة خلال عام 1921.
يعوّل قسم كبير من اللبنانيين على النجاح في تشكيل حكومة إصلاحية وقادرة على تنفيذ المبادرة الفرنسية، مع كل ما يترافق معها من وعود بتدفق ما يقارب عشرة مليارات دولار على شكل قروض ومساعدات دولية لإنقاذ الأوضاع المالية والاقتصادية المتردية. لكن يجهل اللبنانيون بأن تعقيدات الترابط الحاصل بين عناصر الفشل السياسي والأمني، والفشل الاقتصادي والفشل المالي ستحول دون إمكانية نجاح أية مبادرة إصلاحية تقودها فرنسا، حتى ولو دعمتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث انها لا تمتلك منفردة أو مجتمعة جميع الآليات والموارد اللازمة لتفكيك تعقيدات الترابط بين عناصر فشل الدولة اللبنانية الممتدة والمتجذرة على مدى 50 سنة. لقد أظهرت التجارب الماضية لمعالجة حالة الدولة الفاشلة في دول عديدة أبرزها الكونغو، والصومال والسودان وافغانستان والعراق وغيرها مدى قصور القوى الدولية وعجزها في تأمين الآليات والموارد اللازمة لمعالجة أسباب الفشل في عشرات الدول الفاشلة وخصوصاً في افريقيا وآسيا وحتى في بعض دول أوروبا الشرقية.
في رأينا تشكّل عملية معالجة ظاهرة الدولة الفاشلة في لبنان، عملية معقدة وطويلة، وهي تستلزم دون شك تدخلاً مباشراً من الدول الغربية والعربية الكبرى، وفي ظل رعاية دولية كاملة ومستمرة لسنوات عديدة، على ان تبدأ بالبحث عن تغيير جذري للنظام السياسي اللبناني، وإعادة بناء وتفعيل مؤسساته الأمنية والعسكرية وتمكينها بالتالي من إغلاق الفجوة الكبيرة القائمة بين الأمن والتنمية، وإعادة بناء الاقتصاد بعيداً عن كل اشكال التهديد الناتج عن مخاطر احتمال مواجهة عسكرية مدمرة بين حزب الله وإسرائيل، ولاسباب لا مصلحة فيها للبنان.