ها هم اللبنانيون، بدل أن يجمعوا على الإلتفاف حول حقيقة أوضاعهم المأساوية، وتحديد الأخطار الجهنمية التي باتت تلاحقهم وتطارد حياتهم ومصير أولادهم بأقسى ما يمكن أن يتخيله شعب منكوب، لحقيقة الإنهيار الشامل التي قد يناموا على أحلامها المزعجة، وفي اعتقادهم أنهم إذا ما استيقظوا من الغفوة المفروضة عليهم، فكلّ أوضاعهم ستنقلب رأسا على عقب، وسيغرقون قولا وفعلا في لهب جهنّم الموعودة كحقيقة إنهيارية ثابتة سبقتها نبوءة قوّية تغطس بهم أيامها ولياليها إلى حضيضٍ لم يكن أي لبناني ليتخيل أنه قدر نهائي يستقرّ وجوده في جوفه إلى ما شاءت له إرادات الداخل والخارج.
ليس من شك في أن وضع لبنان القائم ينذر بالخطر الشديد، وبعد أحداث هذا الأسبوع ومظاهراتها الحاشدة وغضب الناس المستفحل الذي أطلقوه من خلالها، خير دليل على زخم الأحداث المقبلة وتطوراتها المرتقبة. هل اللبنانيون متوافقون على هذا الإندفاع الأعمى باتجاه الهوة السحيقة؟. «الإستقرار» السابق الذي فرضه توافق كنيسة مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحر، مرّ على مدى سنوات، بمراحل متضاربة من التوافقات القولية التي أدّت على هذا المدى الطويل، إلى تمكين حزب الله من الإمساك بالأوضاع الداخلية والإقليمية، مستفيدا من التغطية المسيحية التي وفرها له التيار في عزّ انطلاقته، وهي تغطية قد تضاءلت مع مرور السنوات إضافة إلى تمكين أغلب السلطات السياسية وبالتحديد الحزبية الأساسية، من التحكم بالأوضاع الإقتصادية والمالية المتداعية والمهترئة في البلاد، والإطباق عليها وعلى كل إمكانياتها وطاقاتها، إلى درجة غير منتظرة وغير مسبوقة أدّت إلى طرح لبنان واللبنانيين جميعا، على الأرض يا حكم، ولعلّ صيحاتهم الإستغاثية التي أطلقوها في الساحات العامة حتى الآن، خير دليل على سوء أحوالهم والجزع على مالهم.
وبما أننا من دعاة لملمة الخراب الحاصل وتصحيح الأمور بالتي هي أحسن، ومن خلال وضع حدّ حاسم للمزالق المخيفة التي بلعت الناس وأموالهم ولم تترك لهم حتى ودائعهم في المصارف، ودهورت حياتهم الإقتصادية والمالية إلى حدود طرح ما يزيد على خمسين بالمائة من اللبنانيين، في مهاوي العوز والفقر والآتي أدهى وأعظم. وأصبح لبنان رائدا بامتياز لحالته المخزية التي أطلّت من خلالها الجموع البشرية المنكوبة بأفواهها المرعبة على جموع اللبنانين التي تتفاقم أوضاعهم واحتياجاتهم وآلامهم، لتجيء كارثة المرفأ وتنقل الوضع اللبناني إلى مستوى المأساة العالمية، فهي كما هو معروف قد أطلقت الأنفجار الأول (غير النووي) في العالم، وهي المأساة التي شردت مواطنين أبرياء وأعملت فيهم بنتائجها المأساوية وأغرقتهم في دماء الضحايا المشرّدين بعد أن دمرت بيوتهم ومؤسساتهم وأكلت آمالهم بمستقبل واعد، وهم في هذه الأيام المكفهرة، وبالرغم من كل العنايات الرؤوفة التي يتلقونها أحيانا من إخوتهم في المواطنية والإنسانية، ما زال بعضهم يقبع في الطرقات وفي بقايا بيوتهم ومؤسساتهم المدمرة، وما يطالعنا في هذه الأيام من بوادر تحركات شعبية يعصرها الألم وتطاولها الرغبات الجامحة في ترك هذه البلاد في مساوئها ومآسيها، والهجرة، (إن أمكنهم ذلك) إلى بلاد الله الواسعة، بعد أن كانت جحافلها في طليعة المتشبثين بهذه الأرض وهذا الوطن، فقد مضت بهم الأيام والظروف القاسية إلى حدود الرغبة في الهرب من مآسيهم، ويزيدهم حماسا إلى هذا التحول، أن الجهات المسؤولة تحاول جاهدة التهرب من مسؤولياتها في إعلام ضحايا بيروت والوطن، بحقيقة ما حصل، وكيف وصلت بهم الحال إلى هذا المآل، وبعد أن وُعدوا بمعالجة مأساتهم والشروع في تحقيق الحلول الشافية والوافية لها خلال أسبوع، اذ بنا اليوم وقد مرّت عقود وفصول وأشهر طويلة من الزمن، وكلنا تصل إليه المعلومات الباهتة التي نستشم منها أطرافا من الحقيقة الخفية، وكل الدلائل تذهب في اتجاه أساسي تجمعت له معلومات من الخارج، أوصلت إلى الناس بعد بدايات متواضعة من التحقق ولم توصل لهم حتى الآن شيئا من الحق.
… وبعد خمود عام بين المسؤولين، ساكن وساكت تماما على أوضاع البلاد المأساوية التي جرّته إلى مهاوي جهنم المعروفة، فالبلد ينهار بأسسه جميعا. يغمر أهله وأطفاله حالات الفقر والعوز، وتهتز أسس وجوده بأعمدتها الثابتة الرئيسية إلى درجة مخيفة للجميع، إلاّ المسؤولين، وبالتحديد من هم في قمّةِ السلطة والتسلّط، المهم أن تستمر أوضاعهم على حالها من الجشع والإلتهام، وعلى إمساكها بما تبقى من أعمدة البلاد المذهبية التي تماسكت بقدرة قادر، حتى أمسكت بها قدرات «قوية» وقفت بكركي انطلاقا منها ومن وقعها المرعب على الناس، وقفاتها المعنوية والمادية المعروفة، مستندة إلى ذلك التحرك وذلك اللقاء الجامع وتلك القرارات المصيرية المرتبطة بالشأن اللبناني وفي طليعتها، الدولة الواحدة الموحدة، السلاح الواحد الموحد، حياد لا تداخله ارتباطات خارجية كائنا ما كانت، وفي أي اتجاه شرّقت وغربت، بعضهم تغافل عن المطالبة بهذا الحياد بل عارضه وصادمه معارضا المطالبة بتسليم الوضع اللبناني إلى حالة وضع اليد الدولية بصورة كاملة على لبنان واللبنانيين من خلال تطبيق الفصل السابع وهذا أمر لم يكن واردا وان مبادرة بكركي لم تشر إليه، وقد وقفت في إطلاتها الوطنية الشاملة تدعو إلى إعادة الدولة إلى أسسها ومنع تشقيف وطنها وشعبها بين الأوطان والإتجاهات والخلافات الدينية والمذهبية التي لم تترك بلدا سليما إلاّ وخربته وهدمته.