ليس في السياسات اللبنانية سوى ما سماه أندريه بروتون “إختراع الإنتظار”. وقمة البؤس أننا ننتظر ما يقرره لمن يلعبون بها في الداخل لاعبون إقليميون ودوليون قساة من النوع الذي ينطبق عليه قول الجنرال ديغول: “الدول وحوش باردة”. فلا أحد يؤلف حكومة وهو يتطلع الى كل ما يحدث في المنطقة من حوارات مفاجئة بين الخصوم في ظل التفاوض الأميركي- الإيراني، بدل أن يرى اوضاع البلد وحاجات الشعب. ولا أحد يؤلف حكومة بالمغالبة بدل الحوار. لكن هذا ما يحدث منذ شهور. ولن تبدّله زيارة تحذيرية مدعومة أميركياً وأوروبياً لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان المصرّ على خيار وقرار في بيروت، وهو يعرف أين المفتاح. فلا الزائر يحمل مفاجآت. ولا في المواقف الجامدة هنا مفاجآت. ولا نقص في عدة التحايل على الوزير بعد التحايل على رئيسه إيمانويل ماكرون، الذي زار مرتين العاصمة اللبنانية المنكوبة بالسياسيين وإنفجار المرفأ.
ومن الوهم تصور العناد للعناد على طريقة الفن للفن. فالعناد قرار وخيار للتوصل الى هدف. والتحولات الجارية في المنطقة هي بالنسبة الى لبنان عصافير على الشجرة التي تحجب الغابة أمام الذين ينتظرون أن تأتي لمصلحتهم، وهي عملياً على حساب لبنان الذي “لا يمكنه أن يفقد هويته” كما قال البابا فرنسيس في رسالة جوابية الى الرئيس ميشال عون. وحين تفشل في تغيير حرف في العناد كل النصائح والمناشدات المحلية والعربية والدولية للإسراع في تأليف حكومة إنقاذية لبلد ينهار، فإن القرار عملياً هو ترك الإنهيار يكتمل. لماذا؟ مجرد موقف عدمي مجاني أم عن سابق تصور وتصميم؟ لا مهرب من سؤال: ماذا بعد الإنهيار؟ أي جمهورية ونظام وإقتصاد وسياسة؟ من يمسك بالبلد؟ في الماضي أمسكت سوريا به ضمن تفاهم مع أميركا ودول عربية وغير عربية. واليوم تبدو الساحة خالية أمام إيران.
لكن اللعبة أشد تعقيداً. فالبلد المفلس سياسياً ومالياً والعاجز عن استثمار ثروته الغازية والنفطية في البحر، يعرف أن هذه الثروة تثير شهية عدد كبير من الحيتان في الصراع الجيوسياسي والإقتصادي شرق المتوسط. قبل سنوات كان هناك ثلاثة خائفين: خائف على الطائف، خائف من الطائف، وخائف على لبنان من صراع الخائفين. أما اليوم، فإن لبنان هو الخائف من حماقات تركيبته السياسية، وتركه تحت رحمة لاعب يريد إعادة المنطقة الى الماضي البعيد، بتسليم دولي من أجل مصالح أساسية وألعاب وصراعات خارج المنطقة.
ولا فائدة من مناشدة المافيا تقديم المصلحة الوطنية على المصالح الخاصة. أقصى المأمول هو تنظيم المصالح الخاصة. ألم نصبح في حال التسليم بقول هوبز: “غياب أي حكومة أسوأ من وجود حكومة سيئة”؟