يا ست الدنيا يا بيروت… قصيدة للشاعر نزار قباني، أقرأها واستذكر بها بيروت التي كانت، فبيروت التي نعيش فيها في هذه الأيام، هي نقيض مخيف لتلك الوقائع والأجواء. حيث إن ما تركوه لنا وما خلّفوه من أنقاض العاصمة وامتداداتها السابقة في شتى أنحاء المناطق والمدن والقرى، لا يترك لنا من أطلال هذا البلد المنكوب، سوى الحسرة والألم والغوص في ذكريات العزّ والحضارة والنّعم التي أطبق عليها جراد السارقين والنّاهبين، الذين أتحفونا بنكبة بيروت، حيث نسفها الإنفجار «النووي»، وقتل من أهلها من قتل وشردهم في شتى الأنحاء والأماكن، والتهم قطاعاتها الإقتصادية والمالية والطبية والتعليمية، فضلا عن أموال مودعيها لجنى أعمارهم في قطاع مصرفي كان لؤلؤة البروز الإنمائي والممول الأهم للنشاطات المؤسساتية في لبنان وفي كثير من الامتدادات المجاورة، وفي غفلة من الزمن والضمير والوجدان، أصبح القطاع المصرفي في حاله المزرية التي يعيشها اليوم، وأصبح المودعون اللبنانيون «شحادين يا بلدنا»، ينتظرون أن يسقوا بالقطّارة بعضا من جزئيات ما احتسبته المصارف من جنى أعمارهم.
المشهد في لبنان عموما، وفي بيروت خصوصا يظهر للمراقب، أسواقا وقد اضمحلت مؤسساتها الكبرى إلى مواقع منهارة أقفلت أبوابها ونشاطاتها وتحوّل الكثير منها إلى مؤسسات قيد التصفية. البلد كلّه وعاصمته على وجه الخصوص، بات يضجّ بالجموع النقابية والمهنية المختلفة في مسيراتها الغاضبة والمهدّدة ، سندا إلى ما وصلت إليه أحوالها، والمطالبة بإجراءات سريعة لدرء الخراب والإنهيار الكامل عن أوضاعها المزرية ومستقبلها الذي أمسكت بخناقه الأهواء والأنواء، ولكن في غياب الدولة الواعية والطائلة والقادرة، وفي ظل التجميد الحكومي القائم، كرمى لعيون الموعودين بمقاليد السلطة المقبلة، وفي ظلّ حكومة تصريف أعمال منتمية أساسا إلى مواقع الحزب الحاكم والعهد المستحكم، وفي واقع فشلها الذريع في تولي شؤون البلاد والعباد، وفي حالها اليوم، كحكومة تصريف أعمال يأبى رئيسها أن تقع عليه أية ممارسات له أو تنسب إليه، في مهاوي المسؤوليات المعنوية والقانونية، خاصة وأن أحوال البلاد لا تطمئن، وأيامها المقبلة، تزداد سوادا وخطورة يوما بعد يوم، ومن غرائب الأوضاع القائمة، أن المسؤولين لدينا يلوذون بصمْتٍ كامل وتهرّب أكمل في مواجهة الأحداث الجسام التي لن تلبث طويلا حتى تلقي بنا في مهاوي جهنم الملتهبة بحرائق الأنفس اللبنانية التي تغمرها المعاناة والجوع والألم. أغرب ما في هذا الوضع أننا نجد بدائل هذه الأيام في التعبير عن الواقع المريع، تصاريح ومواقف جزئية ومعبرّة ومتتالية لرجال الدين، خاصة في الأوساط المسيحية وفي طليعتها البطريرك الماروني الذي أضاف إلى مواقفه ومآخذه ومطالبه قبل أيام، تحذيرا بالغ المدى والتحسّب، يذهب إلى أنّ هناك من يدفع لبنان إلى الإنهيار لغاية مشبوهة، فمن الداخل العميق للمنظومة الحاكمة، تندفع المواقع والمواقف والتصرّفات إلى جملة من التوجهات الإنقلابية التي لا تأبه إلى معاناة الناس وشظف عيشهم وهجرة من استطاع من جموعهم إلى الخارج سواء وراء واقع مغاير لأوضاعهم الداخلية المرعية، أو إلى سبل للعيش المعقول والمقبول، مما لا توفره لهم أوضاع بلادهم الحالية الغارقة في تناقضاتها وتوجهاتها المسيّرة «بالرموت كونترول» من قوى خارجية، تحاول جاهدة جرّ كامل الواقع اللبناني إلى صفوفها وتوجهاتها، ولا نغالي إذا ما تبنيّنا القول السائد في هذه الايام بأن بلادنا باتت تحت الإحتلال الخارجي بكل مراميه وتوجهاته على كافة صعد الحياة، ويزيد في الطين بلّة أن هذا الوضع يتخبط في تحرّكاته وممارساته، فإذا به يطاول بالأذى الشرائح اللبنانية كلها، ومن بينها الشرائح المنتمية إلى مجتمعاته. إن خرابا ودمارا يطاول ركائز هذه البلاد، سيمتد أذاه الوجودي إلى سائر أنحاء الوطن بكل مناطقه وانتماءاته. إن أخشى ما نخشاه في هذه الأيام القاتمة، أن تؤدي التطورات الإقليمية والدولية وتداخل المصالح وتضاربها إلى أذىّ، أكثرَ ما ينال من أوضاعنا اللبنانية التي رغم محاولات قوى دولية كثيرة التلطيف من أخطار مساراتها المنهارة، على نحو ما حاولته المبادرة الفرنسية، إلاّ أن الأيام علّمتنا أن المصالح الخارجية خاصة لدى الدول القوية والمهيمنة على توجهات العالم ومواقفها المضطربة والمتّسمة بالتناقض، وبالتضارب إلى درجة الإنهيار والتلاشي، قد تنجح في طغيانها وارتكاباتها المؤذية، على النحو الذي يسعى إليه بعضها باتجاه خلخلة الوضع اللبناني وتحويله إلى بؤرة من الصدامات والإنهيارات المتلاحقة التي قد تؤدي لا سمح الله، إلى زواله وتشريد أهله وسكّانه، وفي هذه الحال الإفتراضية حتى الآن، لن تنجو منه مهما اشتدت سلطاتها وقوي إمساكها بالأوضاع القائمة، من تلقّي نتائج الإنهيارات المزلزلة لركائز الوطن كله.