IMLebanon

التفكُّك بعد الانهيار؟

 

 

في مسار الانهيار اللبناني، هناك سيناريوهات متداولة يذهب البعض إلى حدّ اعتبارها من «الخيال العِلمي»، ومنها، أنّ تمادي الاهتراء الإداري والمالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي إلى ما لا نهاية سيقود إلى اهتراء أمني أيضاً. وفي هذه الحال، النافذون الذين يأخذون اليوم على عاتقهم إدارة شؤون مناطقهم اجتماعياً، أو فعلوا ذلك في فترات الحرب، سيعلنون إدارة شؤونها أمنياً أيضاً. وهكذا، ستنشأ «المناطق» على حساب الدولة المفكَّكة. فهل هذه المخاوف في محلها؟

 

هناك طمأنينة سائدة في الأوساط السياسية: لبنان ممنوع من التفكُّك مَهما تمادى في انهياره. والدليل إلى ذلك أنّ البلد عاش حروباً طويلة، على مدى سنوات، وتعرَّض لاهتزازات وتجارب انقسامية، لكنه بقي متماسكاً كدولة ومؤسسات.

 

على الأرجح، هذا الانطباع في محلِّه. لكن بعض المتابعين يسجّل أنّ مخاطر التفكُّك القائمة حالياً أكبر من تلك التي كانت خلال الحرب، بل ربما تكون الأكبر في تاريخ لبنان. ويلاحظ هؤلاء، أنّ الانهيار المالي أشدّ خطراً على الدولة من الانهيار الأمني والعسكري الذي عاشه لبنان خلال الحرب. وفي عبارة أكثر دقّة، لبنان يعتمد على ركيزتين عسكرية مالية، فإذا سقطت إحداهما يصاب بالضعف، ولكن، إذا سقطتا معاً يسقط هو أيضاً.

 

يقول هؤلاء: في الحرب، لم تتفكّك الدولة، على رغم انقسام مؤسساتها الإدارية والعسكرية والأمنية. وبقيت الليرة عنصر الجمع بين اللبنانيين، بقوة المصرف المركزي. وأما اليوم، فهذا العنصر بات سلبياً: انهيار الليرة وخواء المصرف المركزي ومعه القطاع بأسره. وفي المقابل، يتماسك الجيش والقوى الأمنية.

 

في اعتقاد المتابعين، أنّ على لبنان أن يحاذر فقدان مقومات صموده نهائياً، بضياع مؤسساته العسكرية والمالية في آن معاً. ففي هذه الحال، ستصبح السلطتان التشريعية والتنفيذية مجرد هيكلين فارغين لا قدرة لهما على التماسك. ومن هنا يفسّر هؤلاء حرص القوى الدولية الطارئ على حماية الجيش من السقوط، بعد سقوط الليرة والمصرف المركزي.

 

وفي مراحل سابقة، بلغ لبنان نقطة حساسة لجهة تماسكه ووحدته الوطنية. فبعد اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975، تفكَّكت المؤسسات الإدارية والعسكرية والأمنية، وتكرَّست مناطق النفوذ التي تتقاتل ويستقلّ كل منها ويحكُم ذاته بذاته وفق معايير طائفية ومذهبية. وحينذاك، خرجت إلى العلن أصوات تعلن أنّ لبنان الدولة الموحَّدة بات على طريق الزوال، أي أنه يتَّجه إلى التقسيم.

 

واقعياً، عاش لبنان 15 عاماً على مقربة من التقسيم، لكن صلة الوصل لم تنقطع. وحتى الجيش عاش فترات مضطربة بين الانشقاق التام والتوحُّد حول القيادة، وكذلك قوى الأمن. لكن «الليرة» بما ترمز إليه معنوياً، ومن خلالها المصرف المركزي، بقيت قوة – إجمالاً- وعامل الجمع الوحيد، خلافاً لما هو واقع الآن.

 

لقد انطلقت الحرب بين المسيحيين وتنظيمات فلسطينية. لكن النزاع تحوَّل محض طائفي- مذهبي- أهلي. ولاحقاً، دخل السوريون على الخط، ثم الإسرائيليون. وبذلك، لم يعد ممكناً تحديد: هل هي حربٌ أهلية، أم هي حربٌ بين المحاور الخارجية، جرى فيها استخدام لبنان واللبنانيين؟

 

في بعض اللحظات، لم تتورَّع قوى مسيحية عن المجاهرة: «صحيح أننا نريد لبنان موحّداً. ولكن، إذا كان علينا أن نختار: إما دولة موحَّدة يحكمها الفلسطيني أو السوري وإما التقسيم، فإننا بلا شكّ سنختار التقسيم». وعلى الأرجح، كان هذا الموقف آنذاك ردّ فعل مباشر في محاولة لتوفير الحماية.

 

طبعاً، في المقلب الآخر، كان الحديث عن التقسيم بمثابة كفر. وهذا منطقي، لأنّ الشعور بأنّ الغلبة آتية كان قائماً هناك دائماً. ومَن يطمح إلى حُكم الكلّ لا يقبل بالجزء.

 

الطرح الذي اعتبره المسيحيون قابلاً لـ»التسويق»، خارج «الكفر»، هو اللامركزية الموسَّعة، فدرالية أو كونفدرالية. طبعاً، يريدونها ذات عمق سياسي وتؤمّن هامشاً من الحرية لكل مجموعة، بعيداً من سيطرة الفئات الأخرى. ولكن، حتى هذه الصيغة رُفضت أيضاً في البيئتين السنّية والشيعية، تماماً كما التقسيم، وللمبرِّرات إيّاها. وتمّ التمسّك بالنظام المركزي.

 

ومع تراجع النفوذ المسيحي، تراجَعَ النزاع الطائفي، المسيحي – الإسلامي، القديم، ليتقدّم النزاع المذهبي، السنّي – الشيعي، كجزء من نزاع كبير دائر في الشرق الأوسط. ويرى كل من الطرفين أنّ من مصلحته بقاء لبنان دولة مركزية، ولكن، ما المانع من قبول «حزب الله» بشكلٍ من أشكال الفدرالية، إذا شاءت الظروف أن يكون الحلّ لتنظيمه العسكري مشابهاً لنموذج الحشد الشعبي في العراق؟

 

الواضح أنّ الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي، في ظل الفشل السياسي الكامل، سيفرض سيناريوهات دراماتيكية. وواقع الجوع والوجع والاحتقان الاجتماعي سيدعم حتماً دور المرجعيات الطائفية والمذهبية والأمنية في كل منطقة.

 

وأسوأ ما يمكن توقّعه هو أن ينهار كل شيء ولا تتوافر القدرة أو الإرادة للتأسيس مجدداً. في هذه الحال، يتكرّس الأسوأ، أي الاهتراء والتفكّك، ما دام التقسيم مرفوضاً والفدرالية ممنوعة والدولة المركزية قد سقطت بحكم الفشل. وعندما يكون الحوار مقطوعاً، هل مِن بديل سوى الصدمات الأمنية؟