كان المؤرخ برنارد لويس يقول: “لبنان قاسى، لا بسبب أخطائه بل بسبب مزاياه”. اليوم، تكاد معاناته ان تكتمل لثلاثة أسباب على الأقل. أولها تقدم المشروع الإقليمي المضاد لمزاياه وجوهره في خطة الإمساك به. وثانيها أخطاء المافيا التي حكمته وتحكمت به ولا تزال. وثالثها تحميله أثقال أدوار خطيرة أكبر منه آخرها ان يكون محارباً بالوكالة في صراع جيوسياسي لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، ثم أن “يخسر رأسه عند تغيير الدول” ويذهب “فرق عملة” في خرائط الصفقات المقبلة. وكل ذلك على أرض أزمة مالية وإقتصادية وإجتماعية وسياسية ووطنية من أخطر ما مر به في تاريخه.
حتى التعاطف العربي والدولي مع اللبنانيين المنكوبين، فإنه تميّز بالتباين في وجهات النظر ضمن التصور العام، واصطدم بمصالح محلية وإقليمية قوية. التصور العام الذي تمثل بمبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون هو الحاجة الى تسوية واقعية قوامها تحسين ظروف العيش في “ستاتيكو الأزمة” عبر “حكومة مهمة” إنقاذية تجري إصلاحات. لكن باريس التي جرّبت إقناع طهران وحاورت كل القوى في لبنان وسلًمت بدور “حزب الله” واجهت عقبتين: مطالبة أميركا أيام ترامب ومعها السعودية ودول عربية عدة بحكومة من دون “حزب الله”، وخوف الأطراف المحلية من الإصلاحات التي تعني وقف الهدر والتهريب والسطو على المال العام والخاص. وحين تفاهمت أميركا بايدن في مناخ التفاوض مع إيران وغض النظر عن نفوذ “حزب الله” في الرئاسة والحكومة والمجلس النيابي، فإن محاولاتهما لتغيير الموقف السعودي لم تنجح. فضلاً عن أن رفض المافيا للإصلاحات مستمر. كذلك رفض محور “الممانعة والمقاومة” للدخول من باب الصندوق الدولي والتوجه غرباً. والرهان على التغيير بالإنتخابات سمك في بحر.
واللعبة لا تزال هنا: جهات تصر على حكومة يتحكم بها “حزب الله” والرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل. وجهات تريد حكومة بلا “حزب الله” والنفوذ الإيراني. والمسألة هي موقع لبنان في الصراع الجيوسياسي والمشاريع الإقليمية. وليس إعتذار الرئيس المكلف سعد الحريري عن عدم التأليف، بصرف النظر عن تفاهة المسرحية التي دارت في القصور على مدى شهور وعن الإخراج الرديء، حادثة سير
يمكن بعدها استخدام سيارة أخرى. لكن هذا هو السيناريو المرشح للتكرار بحثاً عن رئيس مكلف يصطدم بالحسابات والمصالح نفسها. وليس أصعب من التأليف سوى ما بعده، حيث المعيار هو الثقة الخارجية قبل الثقة النيابية.
والغريب هو الحديث عن رابحين وخاسرين في دولة فاشلة. فالكل خاسر وطنياً وسياسياً، وإن اغتنت عائلات المافيا على إفلاس البلد والشعب. ولا أحد يعرف سيناريو اليوم التالي بمن في ذلك الذين يتصورون أن هذه فرصة للإنفراد بحكم سفينة تغرق. لكن الكل بات يعرف بالتجربة واللحم الحي أن ما ينطبق على لبنان واللبنانيين هو قول شهير في إسبانيا: “الحياة مطهر طويل تتخلله إقامة قصيرة في الجنة والجحيم”.