Site icon IMLebanon

لبنانُ المَنفى حيثُ الدروب كلّها تقود إلى جهنم

 

 

ما بين التكليف الغامض والتأليف الصعب.. رحلة الانهيار مستمرة

 

 

في المنفى المسمّى لبنان، حيث الزمن عاد إلى بدائيات ما قبل الدولة والحقوق والانتظام والدستور، وحيث العزلة عن العالم والمدنيّة والحداثة والخدمات والتطوّر، وحيث لا كهرباء ولا ماء ولا دواء ولا محروقات، وحيث الكثير الكثير من الطوابير والحزن والكآبة والدموع والتكاذب والتخابث والنهب والفجور. هنا في هذه البقعة الكئيبة كلامٌ معسول عن العدالة، والإصلاح، والإنقاذ.. مشكلته الوحيدة أنه – إلى جانب كونه كذبٌ مفضوح – ما عاد ينطلي على أحد، لا في الداخل ولا في الخارج. الخارجُ الممعن، لأسباب غير مقنعة، بتغطية منظومة الإجرام، والسلاح، والهيمنة والفساد.

 

استعادة الثقة مع العرب والعالم، ومع الداخل من خلال إجراء الانتخابات النيابية تمهيداً لإعادة بناء مؤسسات تتمتع بالشرعية الشعبية والدستورية.. مهمّة صعبة على المنظومة، لكنها ستضطر مرغمة على السير بها قريباً جداً

 

من حيث المبدأ ستجري اليوم الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس لتشكيل الحكومة.. ولمن لا يذكر فإن لبنان يعيش بلا حكومة منذ 10 آب 2020، تاريخ استقالة حكومة حسان دياب، أي منذ أقل من سنة بقليل، في وقت تتقلّب البلاد على جمر الإفلاس والجوع والفتنة والفوضى والانهيار، على وقع السجالات السياسية التي تتذرع بالدستور شماعةً للتعطيل أو للتفلت من موجبات العدالة في جريمة تفجير بيروت الكارثي! وهذا إن دلّ على شيء فعلى استخفاف المنظومة بأوجاع الشعب، وتلذّذها بإذلاله.

 

التكليف شيء والتأليف شيء آخر

 

في الطريق إلى الاستشارات، من المهم التذكير بأن لبنان يرزح تحت أزمة هائلة وغير مسبوقة طالت الأمن والاستقرار والاقتصاد والنقد والسلع الغذائية والحياتية والمحروقات والأدوية؛ ويواجه ركوداً عاماً حيث أقفلت المؤسسات، وتمّ تسريح آلاف الموظفين، وزادت نسبة البطالة، ووصلت نسبة الفقر إلى 57 بالمائة، في مقابل ارتفاع الأسعار بنسبة 183 بالمائة خلال أقل من سنة، كل ذلك وسط إجراءات قمعية وغير قانونيّة تتخذها المصارف بحق المودعين، أفراداً وشركات، لناحية احتجاز الودائع وتقنين السحوبات.

 

في الطريق إلى الاستشارات النيابيّة الملزمة، لا بدّ من التذكير، للمرّة الألف، أن البدعة التي سعى إلى إرسائها هذا العهد، من خارج الأصول والدستور والتقاليد والأعراف، حول ما يسمى ضرورة التوافق قبل الاستشارات، أو الاستشارات التمهيدية قبل الاستشارات الدستوريّة، هو هرطقة دستوريّة لا أصل لها أو أساس سوى ضمان المحاصصة، وإرساء أعراف شاذّة لضرب الحياة الوطنيّة، والأهم لضمان مصالح وطموحات الصهر المنبوذ من الجميع، والمعاقب أميركياً بسبب الفساد. والواقع أن استحضار الدستور في الخصومات السياسية لا يستقيم، ولا يغطي تقاعس السلطة عن تحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، إذ يمكن تخيل أسباب عديدة، عديدة جداً، للمأزق والمناوشات والخصومات، إلا أنه من الصعب القول أن وراءها تباين في فهم الدستور ومدى الالتزام به. ومثلُ ذلك استحضار مصطلح «الميثاقية» الملتبس والمطّاط عند كل شاردة وواردة بهدف التعطيل، إنه ذات القاموس المفخّخ الذي أنتج سابقاً مصطلحات عبثية كالحكومة التوافقية وحكومة الوحدة الوطنية ستاراً للعرقلة.

 

في الطريق إلى الاستشارات، أيضا، ولذرّ الرماد في عيون الشعب الغاضب من كل المنظومة، عمدت المافيا الخبيثة إلى خفض سعر صرف الدولار في السوق السوداء قليلاً، مع مفارقة أن جناحها الآخر، أي الكارتيلات التجارية لجأت في مقابل ذلك إلى وقف حركة التعاملات أو إغلاق المحال التجارية أو عدم خفض الأسعار، طمعًا (أو يقيناً) بعودة سريعة لارتفاع سعر الصرف أما تعميم هذه الأجواء الايجابية الفارغة والكاذبة فلها عدة أهداف.

 

أولويات ما بعد التكليف

 

في المباشر، قد تحصل الاستشارات النيابية وقد لا تحصل، ومن حق من تسميه أكثرية النواب أن يشكّل حكومة يُفترض أن تكون إنقاذيّة بكل ما للكلمة من معنى.. وفي حال سارت الأمور على نحو يسهل ولادة الحكومة العتيدة فستكون أمام تحديات – أولويات، ولا يمكن القول إن الأمور استقامت أو وضعت على سكة الاستقامة ما لم تتصدَّ لها بشكل جدي وسريع وفاعل، وهي:

 

أولاً: وضع مسألة العدالة في تفجير 4 آب الكارثي، في أولوية الأولويات، مع الالتزام برفع الحصانات والمعوقات أمام عمل القاضي العدلي طارق بيطار، وخصوصاً حول الأسئلة الكبرى المتعلقة بالسفينة التي نقلت شحنة الموت، ومن استقدمها، وأين اختفى الجزء الأكبر منها، ومن حمى وغطى كل ذلك، ولأي سبب، ولمصلحة من؟؟

 

ثانياً: التفرّغ لمعالجة الأزمة الاقتصادية والنقدية والحياتية، ولو من قبيل وقف النزف الحاصل أولاً، دفعاً لشبح الإفلاس والجوع، ومن ثمّ إطلاق مفاوضات مباشرة وسريعة مع صندوق النقد الدولي تمهيداً لاعتماد خطة إنقاذية علمية وشفافة وطموحة توقف الانهيار وتعيد الثقة، وهذا يعني حكماً التعهّد بالمضي بالملف الإصلاحي بشقيه: مكافحة الفساد في إدارات ومؤسسات الدولة وآليات إجراء العقود والصفقات والتلزيمات من جهة، ومن جهة ثانية إطلاق مسار قضائي لاستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة وأموال المودعين، والتدقيق في حسابات الدولة جميعها.

 

ثالثاً: استعادة الثقة مع العالم العربي وأصدقاء لبنان، وقبلها استعادة ثقة الداخل من خلال السعي الجادّ لإجراء انتخابات نيابية في موعدها، بعد إقرار قانون انتخاب عصري وعادل يؤمن مشاركة شعبية واسعة تمهيداً لإعادة بناء مؤسسات تتمتع بالشرعية الشعبية والدستورية.. وهذه المهمّة وإن كانت صعبة على المنظومة، فإنها ستضطر مرغمة على السير بها قريباً جداً.

 

إن تنفيذ هذه الأولويات كخطوة أولى في طريق الإصلاح المنشود، قادر على إقناع الشعب بأن ثمة إرادة للتغيير، وأن الطبقة السياسيّة باتت تدرك هول الأزمة وحجم الضغوطات التي يواجهها اللبنانيون.. لكن كل المؤشرات، كلّها، تَشي بعكس ذلك. السيناريو الأرجح حتى الساعة هو أن التكليف قد يمرّ.. لكن، غالب الظن، أن لا حكومة في الأفق إلا إن كانت وفق شروط وحسابات «حزب الله» الخارجية، أولاً، ومن ثمّ بأن تخدم حسابات وطموحات جبران باسيل.. وكلا الخيارين كارثيين وتدميريين للبلد..

 

هكذا، على الثقة بلبنان السلام، وعلى اللبنانيين، إلى جانب ترقّب نهاية ولاية الرئيس عون، التحضّر لمزيد من الانهيار والجوع والطوابير.. إنها جهنم هذا العهد.