ستُظهر التطورات أنّ قرار رفع الدعم عن المحروقات مفصلي في مسار الأزمة التي انفجرت قبل عامين، بل إنّه سيَحدّد الاتجاه الذي سيذهب إليه البلد. ففي العمق، أزمة الدولار والأسعار والجوع خلفياتها وأسبابها سياسية، وستقود حتماً إلى إحداث متغيِّرات سياسية.
حتى الآن، ما زال اللبنانيون على أطراف جهنم الموعودة وضواحيها. ولكن، بعد رفع الدعم عن المحروقات وسواها، سيدخلون جدّياً في أعماق جهنم، في «السنتر فيل». وعلى نار المحروقات، ربما تنضج خيارات يُراد إيصال البلد إليها، عاجلاً أو آجلاً.
كان مفترضاً أن يحدث «الارتطام الكبير» قبل عام أو أكثر، لكنه تأخّر إلى اليوم لأسباب عدة داخلية وخارجية:
داخلياً، منظومة السلطة التي يغرق أركانها في الفساد، على أنواعه، تمكّنت من كسب الوقت. فهي تفلَّتت من كل استحقاقات التحقيق والتدقيق الجنائي، في المصرف المركزي وكل المؤسسات الأخرى. وبعد تهريب أموال الحيتان إلى الخارج استنسابياً، استولت على ودائع اللبنانيين، واستفردت بها واستهلكتها لإسكاتهم تحت عنوان الدعم، فيما هي واقعياً كانت تستكمل نهبها عن طريق التهريب المنظّم، تحت أعين الجميع. وفوق ذلك، اعتمدت المنظومة أساليب الوعود والقمع لإخماد الغضب الشعبي، وتهرَّبت مِن أشنع جريمةٍ في 4 آب.
وأما في الأسباب الخارجية، فالمنظومة مارست سياسة المراوغة وتوزيع الأدوار مع القوى الدولية والعربية التي كانت تحاول التدخّل، ولاسيما الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية. وتُراهن المنظومة على أنّ المجتمع الدولي سيبقى مضطراً إلى التعاطي معها واقعياً، حرصاً على الاستقرار، وخوفاً من وقوع لبنان تحت السيطرة الإيرانية.
في اعتقاد البعض، أنّ هذا الرهان كان في مَحلِّه، إلى حدّ بعيد. فـ»حزب الله»، الذي يشكّل العمود الفقري للمنظومة، يلعب أوراقه بالتماسك مع إيران وبناء على مستلزمات صراعها مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ولأنّ «الحزب» هو اللاعب الأقوى، فسيضع يده على البلد عندما يسحب الآخرون أيديهم.
ولكن، ثمة من يرى خلاف ذلك. وفي رأي بعض المتابعين أنّ قوى دولية وإقليمية، ولاسيما إسرائيل، ربما تنتظر نضوج المعطيات وتنتظر اللحظة المناسبة لكي تقوم بتوريط الجميع في مواجهةٍ ساخنة مع الإيرانيين، تشمل الساحة اللبنانية، بهدف إبعادهم عن «الإطار الحيوي» للنفوذ الإسرائيلي في الشرق الأوسط. وعلامات هذه المواجهة تسارعت أخيراً، سواء في حرب السفن الدائرة في مضيق هرمز والبحر الأحمر والمتوسط، أو في تغيُّر قواعد الاشتباك جنوباً.
لذلك، ليس منطقياً رهان منظومة السلطة على مواصلة لعبة كسب الوقت إلى ما لا نهاية، فيما إسرائيل، أو سواها، تستعدّ للاصطياد في الاهتراء اللبناني ووضعية التفكّك من أجل فرض الخيارات. وقد يُفاجَأ الجميع في لبنان بأنّ الأرض اشتعلت تحت أقدامهم، في سياق مواجهة إقليمية يتورط فيها لبنان مجاناً.
ولكن، في معزل عن العامل الإسرائيلي، ستقود الموجة المقبلة من الانهيار، بعد الرفع النهائي للدعم عن المحروقات وسائر السلع الأساسية، إلى فرض وقائع تبدأ اقتصادية ومالية وتنتهي سياسية، ويمكن تَصوُّر بعضها على الأقل.
للإيضاح أولاً، إنّ تسعير البنزين والمازوت والغاز المنزلي على أساس الدولار الحقيقي، وفي غياب البدائل الاجتماعية الجدّية والكافية، سيؤدي فوراً إلى تعطيل المستشفيات والأفران ومحطات توليد الكهرباء والمولّدات الخاصة والإنترنت والنقل العام والإدارات والأجهزة والمؤسسات العامة والخاصة، وطبعاً لا مدارس ولا معاهد ولا جامعات في هذه الحال، لا حضورياً ولا «أونلاين».
وبديهي أن ترتفع أسعار السلع والخدمات جنونياً. وليس واضحاً إذا كان رفع الدعم سيسرّع انهيار الليرة أيضاً، فيما ودائع الناس محتجزة، وما يُرمى لهم من فُتاتٍ لا يكاد يكفي لشراء الرغيف. وسيزداد الاحتقان كثيراً، ولا أحد يمكنه تقدير ما سيفعل الجائعون في هذه الحال، فكل سيناريوهات الخراب واردة. ويُخشى، إذا اعتمدت قوى السلطة أسلوب «فَرِّق تسُد» الذي اعتمدته في 17 تشرين الأول 2019، في الشارع، أن تستثير احتكاكات ذات طابع طائفي ومذهبي، عن قصدٍ أو بغير قصد.
المؤكّد، في هذه الحال من الانهيار الكامل والتفكُّك، أنّ الطوائف بزعمائها السياسيين والدينيين وحيتان المال ستسارع إلى استثمار الجوع والجائعين. وستفرِّخ مؤسسات الرعاية والجمعيات كالفطر، بهدف «إغاثة» أبناء الطوائف، وستحصل على المال من مصادر لا أحد يعرفها. وهذا سيستثير روائح «الإدارات الذاتية» مجدداً.
وقبل أيام، لوّح الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بالحصول على المحروقات والأدوية من إيران، غصباً عن الرافضين. وإذا مُنِع الإيرانيون من بلوغ الشاطئ اللبناني، فسيكون طريق المحروقات بحرياً وبرياً في آن معاً: بالبواخر إلى الساحل السوري، وبالصهاريج إلى لبنان.
إذا اقتصر البنزين والمازوت والغاز الإيراني على مناطق «حزب الله»، وبأسعار زهيدة أو مجاناً أحياناً، فماذا سيفعل الآخرون؟ هل ستتبرع لهم دول نفطية أخرى بالمحروقات «من أجل التوازن»؟ وكذلك الأدوية وسائر السلع.
ماذا يعني ذلك في المفهوم السياسي؟ هل سيتحوَّل لبنان فسيفساء تضمّ مناطق نفوذٍ لهذه القوة الإقليمية أو الدولية أو تلك، تنشأ من بوابة الإغاثة، وتتكرَّس في ما بعد؟