العهد يغرق بتوهّم الحلول.. وكارثة التليل جريمةٌ هي أم طلاسم؟
إذا كان من خلاصة للأزمة المستفحلة حيث اختبر اللبنانيون كلّ أصناف الاختناق والإذلال والقهر والفجور، فهي أن الكارتيلات والمافيات والميليشيات أقوى من الدولة وأجهزتها ومؤسساتها التي كلّفت عشرات مليارات الدولارات منذ الانتهاء النظري للحرب الداخلية.. وإلا، بماذا يُفسّر، بعد أشهر على الفلتان والفوضى وتحلّل الدولة، عدم القدرة على ضبط مافيات التهريب، وكارتيلات الاحتكار، وأشباح السوق السوداء، ومجرمو التلاعب بالدولار وودائع الناس ولقمة العيش والسلع الاستراتيجية، بما يعنيه من تلاعب بالأمن والاستقرار الاجتماعي الذي يرتقي إلى جريمة القتل الجماعي؟!
الأفظع، والأكثر استهتاراً ووقاحة، تلك التسويغات والفذلكات التي تُساق لتبرير حالة الفشل والعزلة والانفصال عن الواقع، تارة بوصفها مؤامرة كونية، وأخرى بإعطائها بُعداً طائفياً – شعبوياً يتذرّع شعار «ما خلوني»، ومطلقوها في أساس التعطيل والعرقلة والنهب والتسبّب بالانهيار والتدمير.
ثقب الدعم الأسود!
آخر مظاهر الشعبوية اللامتناهية «القرارات» الصادرة عن اجتماع بعبدا بشأن دعم المحروقات، وابتكار تسعيرة جديدة للدولار تنضم إلى عائلة أسعار الصرف في لبنان (1515، 3900، 8000، 12000، و20000)، وتداعياتها المحتملة على المستوى المالي والحياتي والاجتماعي، ناهيك عن إجماع الخبراء بأنها ليست سوى قنبلة صوتية لن تنهي طوابير الذل، ولن تحلّ مشكلة فقدان المحروقات، فضلاً عن أن هذا الدعم سيكلف الخزينة دَيناً يفوق 1000 مليار ليرة يضاف إلى العجز الكبير.. وكله لتغطية نفقة شهر واحد من استهلاك السوق للمحروقات!!
بعيداً عن استنزاف الوقت، ولعبة الأعداد، والتلاعب بالدستور، يُجمع المتابعون على أن شأن الحكومة، بما هو مؤشر لأشياء عديدة، محكوم باعتبارين، وكلاهما غير متوفر
الغريب والمستهجن، أن اجتماعات بعبدا بكافة فروعها، لا تريد أن ترى أن أحد أهم أسباب فوضى سوق المحروقات هو، مافيات التهريب، وفلتان الحدود، وتواطؤ جهات عدة على حماية هذه الجريمة المنظّمة والمستمرة بحق المواطنين والاقتصاد والأمن الاجتماعي؟ والأهم الأهم أن لا حكومة تتحمل مسؤولياتها في مواجهة الأزمات، بل إمعانٌ بالتعطيل والعرقلة والنكايات والمحاصصات!
صحيح أن اللبنانيين «اكتشفوا» أن عندهم موازنة للعام 2022، ويمكن تالياً مدّ اليد على اعتماداتها، لكن الأهم أن رئيس الجمهورية لا يريد الاعتراف بأن تشكيل حكومة تتولى إدارة الشأن العام، وتكون مسؤولة أمام الشعب هو مدخل الحل، لا توهّم صلاحيات تخالف الدستور، وانتظار كوارث جديدة للنواح وذرف دموع التضليل!
حكومةُ السراب
يبدو الرئيس عون مرتاحاً إلى سياسة تقطيع الوقت، وهو لا يبالي بالقناعة المتعاظمة داخلياً وخارجياً بأنه سبب العرقلة وعدم السماح بإيجاد خرق، ولو بسيط، في جدار الأزمة. يبدو وكأنه، مع الصهر، يريد الانتقام مما جرى في جلسة مجلس النواب الأخيرة، ومن الشعب والعالم كله.
وبعيداً عن متوالية استنزاف الوقت، ولعبة الأعداد، والتلاعب بالدستور، وابتداع أعراف، والتفرّج على انهيار البلد، يُجمع المتابعون على أن شأن الحكومة، بما هو مؤشر لأشياء عديدة، محكوم باعتبارين، وكلاهما غير متوفر:
أولاً: سقف الشرعية العربية، أي إقناع العالم العربي بأن في لبنان، دولة ذات سيادة وقرار ومؤسسات، وبأن ثمة مصلحة للعرب بإخراج هذا البلد مما أوقع نفسه به، أو بمعنى أدق، مما أوقعته به منظومة المافيا – ميليشيا. لكن دون هذا الأمر حسابات إيران التي تفترض أن لبنان إحدى ساحات نفوذها في الإقليم، ولن تسمح بأي حلحلة يمكن أن تؤثر على حساباتها مع المجتمع الدولي.
ثانياً: سقف الشرعية الدولية، ومدخله أن تكون الحكومة مؤهلة لإطلاق حوار جدّي مع صندوق النقد الدولي، وفق خطّة إنقاذية شفافة، وتعهّد بوقف الفساد.. وهذا غير مضمون، ولا تريده أصلاً المنظومة المتحكمة لأنها تراهن على أشياء أخرى لإعادة إنتاج نفسها.
بهذا المعنى، لا ضرورة لتشكيل حكومة تعيد تسويق الأوهام والأكاذيب على العالمين العربي والغربي، وتقضي على ما تبقى من أموال المودعين في المصرف المركزي، وتكون شاهد زور على كوارث وجرائم جديدة، بعد جريمتي المرفأ والتليل، من خلال التغطية على المجرمين واغتيال العدالة. الرئيس المكلف يريد فريق عمل متجانسا لكن ما يحصل على مستوى التأليف هو استمرار وقح للعبة المحاصصة والتعطيل، وتفجير للحكومة العتيدة قبل ولادتها، وليس انتاج سلطةٍ توقف الانهيار، وتباشر الإنقاذ، وتطلق رحلة التعافي!
كارثة عكار وأسئلة تكبر
اليوم تكون مرّت عشرة أيام على مقتَلَة التليل في عكار، فيما عداد الضحايا آخذ بالارتفاع وقد بلغ 31 ضحية، إلى جانب بعض المفقودين وعشرات المصابين إصابات قاتلة، هل يعقل أن لا معلومات عما جرى، ولا متهمين، ولا تفاصيل، بل أحزان ودموع وضياع في دوامة الشائعات والروايات والتخمينات.. أجريمةٌ هيَ أم طلاسم؟
بكل الأحوال، الكارثة – الجريمة يجب أن لا يطويها النسيان أو يطالها التضليل والعرقلة التي تمتهنها المنظومة، بمعنى أدق ينبغي للعراضات الطائفية البغيضة، والردح السياسي الذي أعقب الجريمة مباشرة أن لا يكون، كما يشتهي كثيرون، محاولة لذر الرماد في العيون والتغطية على المتسببين والمتورطين والمغطين، في وقت تبدو الوقائع والحقائق تفقأ عين الشمس. هنا التعويل على الجيش دون سواه، لتبيان أسئلة كثيرة؛ ماذا كشفت التحقيقات في محرقة التليل، من هم المسؤولون الحقيقيون، ومن يغطيهم؟ وهل تكفي مصادرة ملايين الليترات من المحروقات المعدّة للتهريب أو البيع في السوق السوداء، مع أنها كشفت أن لبنان يعوم على بحر من جشع المحتكرين، أم المطلوب كشف أصحابها وحماتهم؟
عهد المصائب والذل
في عهد المصائب والذل، كل المؤشرات تنحو باتجاه السلبي جداً، وعلى كل المستويات. وبعد المحروقات على أنواعها، والخبز والدواء والسلع ومعدلات الفقر، جاء دور المياه، وكما قبل سنة، كذلك اليوم وغدا، لا مبرر لسياسات الانتظار، لأنها لا تخدم إلا المنظومة المتحكمة.
للمجتمعين العربي والدولي؛ تعرفون المعرقل، وتعرفون مافيات النهب والمحاصصة جيداً، وتملكون المعلومات والمعطيات والوقائع عن إجرام المنظومة وفسادها، وتملكون فوق ذلك القوة والتأثير وأدوات الضغط اللازمة.. فلماذا لا تساعدون لبنان ليعود جزءاً فاعلاً من الأسرة الدولية؟
وللشعب، إلى متى تتلذذ بجلدك، وتعذيبك، وإهانتك، وتجويعك، وتعريتك، ونهبك، وحرق مستقبلك ومستقبل أبنائك؟
أما للثورة والقوى المجتمعيّة الحيّة؛ فلا ضرورة لمزيد من الغرق بشيطان التفاصيل، نسمع ونقرأ تحليلات وخطباً وأفكاراً عظيمة، والمطلوب ترجمتها ببرنامج ورؤية وخطة عمل، والتمييز بين ما هو استراتيجي وما هو آني وتكتيكي… فمتى تحين ساعة المبادرة؟