ليس التفلّت الأمني المتنقل بين المناطق والقرى سوى أحد المؤشرات الخطيرة للانهيار القادم، ذلك أن تآكل صورة الدولة وتلاشي هيبتها بفعل التعطيل المتمادي والوقح للمؤسسّات الدستوريّة يعكس نفسه في هذا النوع من المشاكل والقلاقل التي سرعان ما تأخذ طابعاً طائفيّاً خطيراً ينذر بعواقب وخيمة على أكثر من مستوى.
إن مجالات الاحتكاك السلبي بين المواطنين باتت واسعة جداً ومتعددة في مواقعها، وفي طليعتها الطوابير الطويلة على محطات الوقود التي تأسر الناس لساعاتٍ وساعاتٍ في سياراتهم تحت الشمس الحارقة، فيراكمون كميّات هائلة من الغضب، المشروع طبعاً، ويصبحون على جهوزيّة للوقوع في أي إشكال أو حتى إفتعاله من قبل البعض الذين لا يتوانون عن إستغلال الواقع البائس للمواطنين وظروفهم الإجتماعيّة والمعيشيّة الصعبة.
وها هو مشهد الطوابير المهينة ينتقل من قطاعٍ إلى آخر، من الوقود إلى الدواء والغاز والخبز وسواه من البديهيّات التي يُفترض توفرها في أي دولة تحترم نفسها بالحد الأدنى وتحترم مواطنيها وتوفّر لهم مقوّمات العيش الكريم واللائق.
لا يستحق لبنان كل هذا الإذلال، ولا يستحق الشعب اللبناني كل هذه الإهانات. ممّا تتكوّن تلك المدرسة العبثيّة التي ترفع شعاراتٍ فارغة خارج سياقها السياسي والزمني والطبيعي في لحظة الانكسار العام والهبوط نحو القعر من دون أن تفكر في النتائج الكارثيّة التي تولدت عن سلوكها السيئ وأدائها الرخيص الذي لا يكترث إلا لمصلحته الخاصة والفئويّة؟
لقد فقد لبنان كل ميزاته التفاضليّة بفعل أداء تلك الأطراف وسياساتها الرخيصة، وأصبح في عداد الدول المتخلفة التي لا تتوفر لها إمكانيّات التقدّم والنهوض. لقد فقدها بفعل السياسات الرعناء التي قادت البلاد إلى هذا الخواء السياسي والمؤسساتي والفكري والأخلاقي.
اللبنانيّون يتمتعون بالكفاءات المطلوبة ليتمكنوا من النهوض بالبلاد، وهم حققوا ويحققون قصص نجاح إستثنائيّة حول العالم بفعل الموارد البشريّة المتميزة والقدرات الإبداعيّة والأفكار الخلاقة والعزم والإصرار. كل ما يحتاجونه هو حد أدنى من النظام، من القانون، من المناخ الذي يتيح لهم العمل والإنتاج والتطوّر إلى الأمام.
ولكن ثمّة من يصّر على إعادتهم إلى الخلف وذلك من خلال السياسات الهوجاء المقيتة، تارةً من خلال الحروب العبثيّة المدمرة، وطوراً من خلال التعطيل المنهجي للدستور والمؤسسّات والتلطي خلف الشعارات الواهية الزائفة الفارغة الرخيصة.
أما آن لهذا الكابوس أن ينتهي؟ أما آن للبعض من أولئك الذين يقودون هذا الخيار التدميري الجماعي أن يعيدوا النظر بما آلت إليه الأمور بسبب إعوجاج منطقهم وإنحدار سلوكياتهم وأخلاقهم؟
وماذا عن هؤلاء الذين يتلطون خلفهم (وهم بدورهم لا يسلمون من سمومهم)؟ ألا يؤكد تبنّي سياسة تمرير الوقت أن ثمّة مصلحة خفيّة في إبقاء الوضع المتدهور على حاله لا بل أن يذهب في إتجاه المزيد من التدهور ربما ربطاً بأجندات خارجيّة بما يفوق قدرة لبنان على الإحتمال؟
إن مؤشرات التفكك آخذة في الإزدياد التدريجي، وخطورة هذا المنحى تتعدّى الاشكاليّات التقليديّة التي يمكن تصنيفها في إطار أزمةٍ سياسيّة عابرة يمكن لها أن تمّر ومن ثم تُرمم نتائجها وتداعياتها. إن المفاعيل الكارثيّة التي تتولد راهناً جرّاء المأزق المفتعل سوف تترك ندوباً عميقة في الجسم اللبناني المريض وستعجّل في نقله إلى حالة الموت السريري التي لن يكون الخروج منها سهلاً أو حتى متاحاً.
التاريخ لن يغفر لأولئك الذين كان بإمكانهم إنقاذ البلاد من الأزمة إلا أنّهم تعلقوا، وعلقوا الوطن بأكمله، بخياراتٍ مدمرة وبائسة. التاريخ لن يرحم!