من الصعب التستُّرْ عن سبب أي إنهيار تتعرّض له دولة ما، وتاريخيًا وإستنادًا إلى كثير من الوقائع، لم يلحظ التاريخ السياسي أي نموذج لأي دولة إنهارت لأسباب معيّنة، سواء كانت إقتصادية ـ إجتماعية، إلاّ عند وجود منظومة سياسية فاشلة، هي السبب الرئيسي لإنهيار الدولة، ونموذج المنظومة السياسية اللبنانية الحاكمة بالتكافل والتضامن، خير دليل على مؤشِّرْ إنهيار الجمهورية بكل مفاصلها.
حاليًا يشير عدد من الدراسات التي أُجريت على أرفع المستويات وفي أكبر مراكز الأبحاث العربية والدولية، إلى تفكُّكْ أواصر أجهزة الجمهورية اللبنانية، وبالتالي الأمر يُهدِّدْ ركائزها. الإنهيار، وهذا أمر حتمي سيحصل، والسبب سلطة متعثِّرَة تتخبّط في ما بين كل مكوّناتها، ولم تعُد تنفع معها سياسة الترقيع والتستير.
إنّ كافة المذاهب السياسية الفاعلة داخل علم السياسة، تفيد أنّ هناك أهدافاً محدّدة يسعى وراءها المفكّرون السياسيون عند إجراء بحث علمي، وهي تنحصر فعليًا بشروط عدة من الواجب التذكير بأهمها وهي:
ـ أولاً، إرشاد أي باحث أو محلِّلْ إلى تحقيق تفهُّم أوسع عند البحث والكتابة، أي التوصيف وبشرط عملي موضوعي.
– ثانيًا، مساعدة الباحث والمحلِّلْ في تسهيل مهماته البحثية بطريقة موضوعية تساعده في إستكشاف كل المشكلات والقضايا العامة، من خلال بحث علمي مُقنّن اكاديمي، مبني على خطوات منهجية سليمة، تساعد في الوصول إلى الهدف المنشود، وطرق تساعد في الوصول إلى بناء منظومة جديدة تُساهم في مخرج ما.
– ثالثًا، شرط رئيسي وثابت أن يمتاز المحلِّلْ والباحث بالهوامش والتفاصيل ذات الصلة المنهجية، من حيث طريقة الوصول إلى المعلومات المطلوبة عن واقع سياسي ما، وطريقة التعامل مع الأوضاع، وصولاً إلى تقديم نتائج يمكن الركون إليها في تقديم توصيات معينة وفي مختلف المجالات، لمعالجة مشكلة البحث. كل هذه الشروط للأسف غير متوّافرة في لبنان، للبحث في حل للأزمات المفتعلة التي تقوم بها المنظومة السياسية بطريقة ممنهجة، وبالتالي هذا الأمر ينعكس سلبًا على واقع الجمهورية ويُهدِّدْ بإنهيارها.
عمليًا، يُعتبر علم السياسة وواقعيته المُجرّدة من بين أهم الحقول التي تهتم بدراسة سلوك أي سياسي، خصوصًا في حالة ممارسته العمل السياسي. وعلم السياسة كظاهرة إجتماعية طبيعية عرفتها كل المجتمعات، له وجوه مختلفة. فهو، إلى كونه نشاطًا فكريًا موضوعيًا، ذو صبغة سياسية ترتكز على مبادئ العلم السياسي، إلاّ أنّ في لبنان وإستنادًا إلى بعض الدراسات، فإنّ السياسة هي «فن الكذب» و»فن الممكن»، وليست علمًا، بسبب انّ من الصعب إحداث عملية تنبؤ لمسارات الظواهر السياسية المختلفة التي ينتهجها ساسة لبنان، والأمر يعود إلى أنّ السّاسة اللبنانيين يتعرضون دائمًا إلى التغيير اللامحدود والمستمِّرْ، وبناءً على ذلك لا يمكن الوصول إلى ممارسة عمل سياسي شفّاف، وإلى إصدار تشريعات أو قوانين سياسية عامة دقيقة. علميًا، يندرج علم السياسة تحت إطار العلوم الإجتماعية، ويهدف بشكل أساسي وفعلي وعملي إلى درس عدد من النظريات السياسية وتطبيقها على أرض الواقع، وإجراء تحليلات شاملة وكاملة وحتى دقيقة للنظم السياسية المتاحة، وسلوكها السياسي. كما تُعّد البحوث السياسية أكاديمية وحتى نظرية صالحة إمّا للتطبيق أو التعديل. فعليًا في الجمهورية اللبنانية الأبحاث تحصل بطريقتين، إمّا التغيّب عن الجلسات التشريعية، وإمّا على طريقة رفع الأيدي و»صُدِّق».
السياسة عند المحلّلين والباحثين هي جزء أساسي من إهتماماتهم، وهي سلوك رفيع المستوى يقوم به كل باحث أو مُحلِّلْ، ويتعدّى الإهتمام بالشأن العام ليحتّلْ كل الأمور المتعلقة بالدولة وتوزيع الموارد ومناقشة السياسات وإبداء الرأي. والحقيقة أنّ السلوك السياسي ليس حكرًا على السياسي الذي يُمارس السياسة فقط، بل هو سلوك يقوم به كل فرد من أفراد المجتمع، سواء كان فردًا عاديًا او مسؤولًا في الدولة. يفترض المنهج السلوكي السياسي وجود إنتظام في سلوك أي مسؤول، وإنّ مهمّة عالم السياسة إكتشاف هذا الإنتظام، وعندما يتمّ إكتشاف هذه الثوابت فإنّ في الإمكان درسها بطريقة موضوعية تحليلية. في لبنان العكس هو الصحيح، ساسة فاشلون لا يُعيرون الإهتمام لأي عالم أو باحث سياسي، ولا لأي منظومة سياسية جديدة، من شأنها إيقاف إنهيار الدولة أو حتى تأخير عملية الإنهيار، والصحيح أنّ جميعهم يسعون بكل ما أوتوا من جهود، الى تدمير الجمهورية وإعلاء مصالحهم الخاصة على حساب مصلحة الدولة بمؤسساتها المدنية والعسكرية الشرعية.
الجمهورية اللبنانية في حاجة إلى منهج سياسي سلوكي جديد، كردّ فِعلْ على الممارسة السياسية التقليدية الغوغائية، والتي تتسِّمْ بضيق الأُفقْ، وركزّت على درس الجوانب التي من شأنها إضعاف الدولة وسلطاتها. والمنهج السياسي الجديد من المفترض أن يتضمّن نقدًا للتفكير السياسي التقليدي القائم حاليًا، ومن أبرز خصوصيات هذا المنهج معالجته كافة الأمور وفق ما يجمع بين الثوابت القانونية الدولية والمحلية والنصوص المرفقة، وما يحقق مصلحة الجمهورية وللشعب اللبناني، ومن هذه الأمثلة، معالجته لأخطر القضايا الحالية وأهمها نظام الحكم القائم والتشريع السياسي داخل الدولة. المطلوب من المنهج السياسي تحديد معالم رئيسية للنظام السياسي دونما الخوض في التفصيلات والشكليات، بما يتناسب مع تطور الزمن وإختلاف الأشخاص والأحوال السياسية وتركيبة الطبقة السياسية.
المطلوب بإلحاح من المنهج السياسي الجديد ترتيب نظام الحكم، وهو وفق العلم السياسي من أكثر الأمور أهمية، كونه يمسّ كل مظاهر الدولة، وكون إنحرافه الحالي قد فتح الباب على كثير من الويلات. لذلك يجب العمل على إقرار مبدأ الإصلاح السياسي لنظام الحكم، لأنّه إنحرف عن غايته الأساسية الرئيسية وقصّر في تحقيق الأمور المناطة به، وذلك لتحقيق الأمن والطمأنينة في كل أنحاء الجمهورية، علمًا أنّ الإصلاح السياسي وإستنادًا إلى مبادئ العلم السياسي، هو الكفيل بالوفاء لحاجات الناس ومطالبهم، ممّا يؤدي إلى نمّو الثروة وتعميم الرخاء وتحقيق نهضة الجمهورية.
من وسائل المشاركة السياسية المجلس النيابي، حيث يعتبر علم السياسة أنّ المجالس النيابية هي المثال على الديموقراطية النيابية، حيث إنّ الشعب لا يقوم بنفسه بممارسة السلطة التشريعية، وإنما يعهد إلى نوّاب عنه ينتخبهم لمدة معينة وينيبهم عنه في ممارسة هذه السلطة بإسمه. كما تتميّز المجالس النيابية بأنّها الركيزة الأساسية في السلطة التشريعية، حيث تملك إصدار القواعد العامة الملزمة التي تحكم تصرفات الأفراد والجماعات في نطاق الدولة، والأصل في أعضاء المجالس النيابية أنّهم لا ينفّذون سياستهم التي تتفق مع أهوائهم ورغباتهم، إنما ينفّذون سياسة مستخلصة من الإرادة الشعبية التي أوصلتهم إلى هذا المنصب، فهم يترجمون إرادة الشعب على شكل قوانين وقرارات. إنّ الإستحقاق الإنتخابي النيابي هو باب التغيير. وفي حالة بقاء الأوضاع على ما هي عليه، فإنّ الأمور تؤشّرْ إلى أنّ إنهيار الجمهورية اللبنانية وشيك. فالحاجة إلى مبادرة وفقًا لعلم السياسة، تتلخّص بالإنتخابات النيابية كمدخل للتغيير الجذري.