IMLebanon

الانهيار مستمرّ ولا مخارج في الأفق

 

 

بالتأكيد، يحتاج مشروع «الكابيتال كونترول» الذي تمّ رفضه في لجان المجلس النيابي إلى قراءة «موضوعية» يجريها الخبراء «الموضوعيين»، وبعيداً عن القراءات المسيَّسة أو المدسوسة لهذه المصلحة أو تلك، والموزّعة عبر وسائل الإعلام، والتي ساهمت منذ 17 تشرين الأول 2019 في إضاعة الناس وتحقيق الأهداف التي يُبيِّتها حيتان المال والسلطة. فهؤلاء غالباً ما يوزّعون الأدوار من أجل تمرير أمرٍ أو تعطيل آخر.

بعد 17 تشرين وانفجار الأزمة المالية والمصرفية والنقدية، طرح بعض الخبراء إقرار «كابيتال كونترول»، بطريقة علمية، وبهدف حماية الأرصدة الموجودة في البلد، بالعملات الصعبة، وتجنّب إخراجها من القطاع المصرفي، فيُصاب البلد بالكارثة التي وقعت اليوم. لكن القوى السياسية والمالية والمصرفية بمجملها شنّت حملات مضادة، وروَّجت أنّ «الكابيتال كونترول» «يقيّدنا ويأخذنا إلى خارج النظام الاقتصادي الحرّ. ولذلك هو مرفوض».

 

طبعاً، لم يكن ذلك سوى ذريعة لتغطية الحقائق. فالمطلوب فعلاً كان إبقاء اليد طليقة في تهريب مليارات الدولارات، وفي إبقاء عمليات التهريب ناشطة، والاستنسابية في تسعير الدولار وفي اختيار مَن هم الذين يستفيدون من تعدد أسعار الصرف، ولا سيما المصارف والتجار الذين استثمروا في هذه الفوارق طوال عامين ونصف العام.

 

ويتردّد أن العديد من المصارف والتجار تمكنوا من تجاوز أزماتهم، أشواطاً، بفضل هذه الاستنسابية، ومن رفضِ أي شكل من أشكال الشفافية والتدقيق والتحقيق في القطاعين المصرفي والمالي وفي إدارات الدولة ومرافقها، حيث يختلط الحابل المالي بالنابل السياسي، داخل بؤرة فساد واحدة.

 

ولذلك، طوال هذه الفترة من الانهيار الكارثي، لم تتم الاستجابة لأي من شروط الإصلاح التي أرادها رعاة مؤتمر «سيدر»، وأصرّت عليها الجهات والمؤسسات المانحة، وفي طليعتها صندوق النقد الدولي.

 

ولا تستغرب هذه الجهات سلوك المعنيين الذين اختبرت فساد غالبيتهم طويلاً، وتَعرِف جيداً أنهم لن يُقْدموا على أي خطوة إصلاحية تفضحهم أمام الرأي العام وتُحمّلهم المسؤولية عن الكارثة، ولو «على قطع رؤوسهم».

 

لكن مشكلة هؤلاء أنهم يحتاجون فعلاً إلى الدولارات ليستمروا على رأس الماكينة، بعدما جفّت تماماً. فالفساد يحتاج إلى مالٍ باستمرار، خصوصاً على أبواب 6 أشهر تريد فيها تجديد الولاية لسنوات مقبلة. وبعد الاختبار، ليس هناك مجال للحصول على المال لا من العرب ولا من الأجانب. فقط، المرور من بوابة صندوق النقد هو المدخل.

 

إذاً، ما يحاول أركان السلطة القيام به هو خداع صندوق النقد والجهات الدولية والعربية بأنها «على وشك الدخول في الإصلاح»: «كابيتال كونترول»، خطة نهوض، موازنة إصلاحية، تدقيق في مصرف لبنان ووزارات المال والطاقة والاتصالات وفي أبواب الهدر الأخرى المحتملة.

 

ولكن، في العمق، هم يريدون كسب الوقت لا أكثر، ريثما تنضج بعض التحوّلات السياسية الإقليمية وتؤدي إلى رفع الحصار الأميركي والخليجي، فيتم إنعاش المنظومة وتتابع مسارها القديم، من دون أن تدفع أي ثمن.

 

وأبرز التحوُّلات التي يراهن عليها هؤلاء اليوم هي: إنشغال الأميركيين والأوروبيين بمستنقع أوكرانيا، المفاوضات الجارية في فيينا والتي قد تسمح لإيران باستمرار تحريك أجنحتها في المنطقة ولبنان، والتقارب الخليجي مع الرئيس السوري بشّار الأسد ومسار عودة دمشق إلى الجامعة العربية.

 

ففي هذا الخضم، بديهي أن يكون لبنان المُنهار تماماً مادة نزاع شرس بين القوى الإقليمية والدولية. فالأميركيون والإيرانيون والخليجيون العرب والروس والأتراك، وطبعاً الإسرائيليون، قادرون على استخدام ورقة الانهيار لتحقيق غاياتهم في لبنان وإملاء الشروط عليه.

 

في تقدير العرب مثلاً أن قطع «الحنفيات» التقليدية عن لبنان سيشكل ضغطاً يستحيل عليه أن يتحمّله. أما الإيرانيون فمصمّمون على المواجهة ولو صار لبنان صحراء قاحلة، فيما الأميركيون مرتاحون إلى أن صندوق النقد والمؤسسات المانحة في أيديهم وحدهم، ويعتقدون أن اللبنانيين أينما ذهبوا سيجدون أنفسهم مضطرين إلى الرضوخ للصندوق. وفي الأثناء، دمشق الأسد تبحث عن دور جديد لها في اللعبة، والإسرائيليون يلوّحون بورقة الناقورة.

 

وهذه القوى تراهن على استثمار الاستحقاقات التي يقترب منها لبنان، أي الانتخابات النيابية والحكومة التي ستفرزها، ثم الانتخابات الرئاسية، لفرض خياراتها عليه وإملاء الشروط. والعديد منها يوعِز إلى القوى السياسية الوكيلة محلياً بالتصعيد أو بالتسهيل، وفقاً لمقتضيات المصلحة.

 

لذلك، على الأرجح، ستبقى المنظومة الحاكمة توزّع الأدوار بين أجنحتها منعاً لأي خطوة إصلاحية. ولذلك، تخترع مشاريع «الكابيتال كونترول» لخداع الداخل والخارج، ثم تقوم بإجهاضها، وتطلب المزيد من الوقت للتوافق على مشاريع بديلة.

 

وهذا ما تفعله هذه المنظومة منذ عامين أو ثلاثة أو أكثر. فحيتان المال والسلطة كانوا يعرفون أن البلد على وشك الانهيار منذ 2016، ولذلك هم بدأوا بتهريب أموالهم والتضييق على سحوبات المودعين «العاديين» تدريجاً.

 

واليوم، لو كانت هناك نيّة حقيقية لإقرار «كابيتول كونترول» يناسب المودعين ويحقق مصالح الدولة، لما جرى نسف المشروع المحال إلى اللجان بالكامل وكأنه لم يكن، ولكان المعترضون عليه قد جاؤوا باقتراحات محدَّدة بديلة جرت مناقشتها بطريقة علمية وبنّاءة.

 

لكن المسألة كلها لم تتعدَّ المناورة. فالذين قدّموا المشروع عرفوا أنه لن يمرّ، والذين نسفوه يعرفون أن البديل المناسب غير متوافر، لأنه يمسّ بمصالحهم، ويكشف جرائم الفساد المالي المرتكبة، والتي يصعب أن ينجو منها أحد من قوى السلطة.

 

وسواء عن قصد أو عن غير قصد، الجميع يخدمون مصالح خارجية ويحققون الفرضية القديمة التي تقول إنّ انهيار لبنان وتلاشي قوته هما السبيلان الوحيدان لإخضاعه للخيارات الإقليمية الخطرة، وهي كثيرة وداهمة.