Site icon IMLebanon

«تقطيع الوقت» 6 أشهر إضافية

 

 

لا يستطيع أيّ خبير في العالم تفسير أو تبرير ما يجري في لبنان، خصوصاً منذ الانهيار المالي والنقدي، في تشرين الأول 2019. وهذا الوضع دفعَ بأحد الديبلوماسيين إلى القول: لبنان يشبه سفينة سَطا عليها القراصنة، فباتوا يتحكّمون بركّابها وفق مشيئتهم. وأسوأ ما في هذه المأساة هو أن السفن العابرة تتفرّج من بعيد على ما يجري ولا تكلّف نفسها عبء التدخل. وإذا قرر أحد أن يتدخل، فإنه لا يرى مَناصاً من تكريس الأمر الواقع. وهكذا، فإنّ وضع الركاب ميؤوس منه!

منَ المفارقات أن الجميع في لبنان يعيش حال انتظار لِما ستأتي به المبادرة الفرنسية، فيما القوى اللبنانية كافة غير مقتنعة بأنّ هذه المبادرة ستصل إلى نتيجة. وما يرشح من المجالس الخاصة أنّ كوادر بعض القوى النافذة يُبدون عدم اهتمامهم بما يمكن أن يصل إليه الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان. ويقول هؤلاء إنهم، في أي حال، ليسوا مستعجلين لإنتاج تسوية في الوقت الحاضر، ما دامَ عامل الوقت يصبّ في مصلحتهم.

 

وإلى حد معيّن، يُبدي هؤلاء شكوكاً في ما سيفعله لودريان في جولته المقبلة، ويقولون إن الرجل جاء إلى بيروت برغبةٍ في إقرار تسوية لا يشعر فيها أي طرف طائفي بالاجحاف، لا سيما طرفا المواجهة الحالية، الشيعة والمسيحيون، لكنه اليوم يراجع عناصر المبادرة، وقد يقوم بإحداث تعديلات عليها، بناء على ما سيَتكَوّن لديه من نتائج في جولاته المقررة إقليمياً ودولياً. وإذا لم تكن هذه التعديلات مُرضية للفريق الشيعي، الذي كان في الأساس هو الداعم الأول للمبادرة، فسيرفضها، وستبقى مهمة لودريان في وضعية المراوحة حتى إشعار آخر.

 

وتوحي قوى السلطة بأنها تتعاطى مع مهمة لودريان باعتبارها جزءاً من عملية «تقطيع الوقت» التي تطبقها، أو فرصة لتأمين غطاء لها. ويعبّر بعض الخبراء عن دهشتهم لدرجة إتقان هذه المنظومة لعملية «تقطيع الوقت» التي تمارسها بعناد، منذ مدة طويلة، خصوصاً في السنوات الأربع الأخيرة.

 

فمنذ اللحظة الأولى للانهيار، بَدت قوى السلطة غير مستعجلة للحل. فقد أدركت أن الاستجابة للإصلاحات التي تطلبها القوى الدولية والجهات المانحة تعني عملياً سقوط المنظومة بكاملها. ورأت أنّ سبيلها الوحيد للنجاة هو شراء الوقت حتى يتعب الجميع ويرضخوا للأمر الواقع. وبعد ذلك، لا بد أن يأتي الحل من مكان ما.

 

 

والمخرج الذي اتّبعَته قوى السلطة للتعاطي مع الانهيار سهل جداً. فإذا كانت الفجوة المالية التي وقع فيها القطاع المالي تُناهِز الـ70 مليار دولار، وهي حق للمودعين، فقد جرى تجاهلها وتذويبها من دون أي اعتراض، بعد تعطيل المؤسسات والأجهزة التي يمكن أن يلجأ إليها أصحاب الحقوق للمطالبة بها. وببساطة، جرى تذويب هذه الفجوة على حساب أصحاب الحقوق، بالتمَنّع عن اعتماد «كابيتال كونترول» و«هيركات» في التوقيت والشكل الملائمين. وأُتيحَ لذوي النفوذ أن يقوموا بتهريب المليارات إلى خارج لبنان، ثم جرى تذويب ما بقي من ودائع باعتماد أسعار الصرف المتعددة، وأُتيحَ أيضاً لذوي النفوذ أن يستفيدوا من هذا الوضع، وتمكنوا من بناء الثروات غير المشروعة.

 

وحتى اليوم، تبقى الموازنة العامة صوَرية، والمؤسسات في وضعية الفلتان، وتتعمد قوى السلطة إضاعة الوقت بمفاوضات مع صندوق النقد الدولي ستبقى فارغة، لأنه من المستحيل أن يوافق ذوو النفوذ على الإصلاحات المطلوبة فتنكشف مواقع الفساد ويُحيل هؤلاء أنفسهم بأنفسهم إلى العدالة. وخلال هذه الفترة من الفوضى، تم إهدار غالبية ما تبقى من احتياطات من العملات الصعبة، على رغم كونها ملكاً للمودعين.

 

وكما في مجال المال والنقد، كذلك يتم «تقطيع الوقت» في كل شيء. فالاستحقاقات الانتخابية تتعثّر، والمؤسسات مشلولة أو مُربكة، من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة إلى البرلمان وسائر الأجهزة، فيما المَرافق الحيوية معطلة تقريباً، لا سيما الكهرباء التي استنزَفَت 40 مليار دولار، من دون جدوى. فعلى رغم كل ذلك، تواصل قوى السلطة رهانها على الوقت لحل الأزمة «مجاناً»، أي من دون تقديم أي تنازل.

 

 

اليوم، تُدرك قوى السلطة أنّ التسوية لم تنضج بعد، لاعتبارات خارجية خصوصاً. ولذلك، هي أتقَنت لعبة «تقطيع الوقت» للفترة المقبلة، وتحديداً للأشهر الستة المتبقية من العام الجاري.

 

وأبرز مقومات هذه الخطة تأمين استمرار النهج المالي والمصرفي الحالي، من دون تغيير، بعد انتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي رياض سلامة نهاية الشهر الجاري. وهذا الأمر باتَ جاهزاً وقيد التنفيذ. ومن شأن هذه الخطة أن توفّر استمرار «الستاتيكو» حتى نهاية العام، الموعد المرتقب لاستحقاق آخر هو انتهاء ولاية قائد الجيش العماد جوزف عون. وأموال المغتربين والسيّاح تَتكفّل بإمرار أشهُر الصيف والخريف.

 

في الخلاصة، يَجد أركان السلطة أنهم قادرون على إطالة زمن المماطلة والتسويف على المستويات كافة بلا حدود. وهم يعتقدون أنّ التسوية ستأتي ذات يوم من الخارج، كما أن انفجار الأزمة تَمّ بتحريك من الخارج.

 

لقد نجحت قوى السلطة في هذه اللعبة، وأثبتَ أركانها أنهم بارعون في إضاعة الوقت وشرائه، وبأنهم قادرون على تدجين الرأي العام وإخضاعه. هذا الرأي العام الذي لا يثور، ولو أنهم أخذوا منه كل شيء، ولو أنه لم يعد يملك شيئاً ليخسره!