تنهار الدولة في لبنان أمام عيون رعاياها الممنوعين من أن يكونوا «مواطنين» فيها… وتمضي الطبقة السياسية، حاكمة ومعارضة (والكل شركاء) في تهديم الدولة بمؤسساتها كافة: الرئاسة الأولى والمجلس النيابي والحكومة، وصولاً إلى الجيش، في لعبة المزايدة والمناقصة بأبعادها الطائفية بل المذهبية، والتي تهدم آخر أسوار حماية «الوطن»: الوحدة الوطنية.
لنتأمل في مبررات «الفراغ في سدة الرئاسة»، وإدامته لعام ونصف العام، حتى الساعة: إنها، بمجملها، إهانات جارحة لكرامة هذا الشعب، فضلاً عن أنها تحقّر حقه بدولة نصابها كامل، برأسها ومؤسساتها الدستورية، وأولها مجلس النواب المعطل بفعل فاعل، ثم الحكومة التي ارتضى الشعب، مكرهاً، أن يقبلها بعوراتها جميعاً، في انتظار الخروج من دوامة الفراغ بانتخاب رئيس جديد، تمهيداً لانتخابات نيابية على قاعدة قانون جديد (هو أشبه بالحلم!!) يجمع اللبنانيين كمواطنين بدل القانون الحالي الذي مكّن للانقسام وضرب الوحدة الوطنية بالطاعون الطائفي الفتاك.
يضرب الإرهاب الدول العربية بأنظمتها التي لم تعترف يوماً بحقوق شعوبها فيها، والتي حكمت بالعسكر والأجهزة الأمنية، مستدعياً التدخل الأجنبي، وموفراً لها الذريعة بعجزها عن حماية من حكمتهم طويلاً من خارج إرادتهم وبذريعة تأمين البلاد في وجه العدو الإسرائيلي ودول الدعم الخارجي له بالقيادة الأميركية.
فجأة، ومن دون مقدمات، تشن السعودية ومن معها من إمارات الخليج الحرب على اليمن الذي كان سعيداً (ربما في ماضيه الغابر..) بذريعة حمايته من «الخطر الإيراني»، فتدمّر مدنه ومرافق الخدمة العامة وصولاً إلى المستشفيات والثكنات العسكرية وأسباب الحياة، وهي نادرة.
يتزايد عدد الدول العربية التي تتهاوى أنظمتها تحت ضغط ميادين الغاضبين الذين خرجوا مطالبين بحقوقهم في بلادهم.. ولا يفعل «الخارج» إلا محاولة الإيحاء للشعوب المقهورة بحكامها بأنه معها ويؤيد تحركها حتى لو كان يأخذ إلى الحرب الأهلية..
مع ذلك تستمر الطبقة السياسية في لبنان في عبثها بالدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وتسيء إلى كرامة الجيش ووحدته وانضباطه، عن طريق اللعب بكرامة قياداته في بورصة المزايدات والمناقصات الطائفية..
ولعل بين ما يطمئن هذه الطبقة السياسية افتراضها أن «الشعب» مجموعة من الطوائف التي يسهل تحريض بعضها ضد البعض الآخر، وأن ما يفرّق بينها أكثر مما يجمع، بحسب منطق النظام الطوائفي الذي وزع المغانم والمناصب على قاعدة هندسية ملغمة بحيث إنك إذا بدّلت في المواقع والحصص كنت كمن يشعل الفتنة ويتسبب في تدمير الدولة..
ولكن أين هي الدولة؟! وماذا أبقت منها هذه الطبقة السياسية، آكلة الدولة، مدمرة وحدة الشعب ومؤسسات الحكم، بتثبيت قواعد اللعبة الطائفية وإدامتها، بحيث تصير المطالبة بالإصلاح، أو حتى رفض التسليم بالعيش فوق أكوام الزبالة، مدخلاً إلى الفتنة بما يبرر القمع بذريعة حماية الوحدة الوطنية!
… وها هي الطبقة السياسية تذهب إلى الحوار «بمذكرة جلب» تهدف إلى إنقاذها من بعض مطامعها وجشعها واستهانتها بالشعب المكبّل بالمذهبية وهي البنت الشرعية للطائفية والأم الحقيقية للفساد والهدر وإسقاط مطلب الديموقراطية تحت سنابك خيلها.
لكن «الحوار» ينتظر قرار الخارج بإجازة الانتخابات الرئاسية، والإجازة تنتظر التفاهم بين طهران وواشنطن، وموسكو التي أعلنت نفسها طرفاً فاعلاً، في الجو والبحر، في التطورات التي تشهدها هذه المنطقة، فضلاً عن باريس التي لا تغادر ذكرياتها اللبنانية، ولندن التي تعتمد سياسة انتظر وانظر.
واللحظة هي لحظة تبديل سفراء ذوي خبرة ومجيء سفراء جدد يحتاجون وقتاً لتقييم الموقف وتقديم المشورة، وهذا ضروري شكلاً ولكنه لن يؤثر في اللعبة الدوارة بأسماء المرشحين لرئاسة الجمهورية في هذا الوطن الصغير المضروب بالطاعون الطائفي ونظامه الذي ينكر وجود «الشعب» ولا يتعامل إلا مع زعامات الطوائف والمرجعيات الطائفية والمذهبية التي تعمل في خدمة هذه الزعامات.. صاحبة القرار.
فاهدأوا، أيها اللبنانيون، وانتظروا صابرين، ولو بلا دولة، فالصبر أولاً وأخيراً مفتاح الفرج!