يبدو أن مرحلة الانهيارات المتتالية قد شارفت على الإنتهاء، بعدما قضت على معظم القطاعات الخدماتية والإنتاجية، وضربت مقومات الحياة اليومية للأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وأسقطت الطبقة الوسطى إلى خط الفقر.
ولم تُوفر تلك المرحلة مؤسسات الجمهورية التي تلاشى بعضها، وفقدَ بعضها الآخر فعاليته، وخسر معظمها هيبته، وتحول لبنان إلى دولة فاشلة، بكل المقاييس الدولية، وأصبح أسير منظومة سياسية فاسدة وعقيمة، نبذ العالم التعامل معها، وتحمّل الشعب اللبناني تداعيات العزلة الخانقة التي لم يعرف لبنان مثيلاً لها في تاريخه الإستقلالي.
بعد مرحلة الإنهيارات المتساقطة التي وصلت إلى حد إقفال الصيدليات في خطوة لم تحصل في العالم كله، وإضطرار بعض المستشفيات تعليق العمل في أقسام الطوارئ، وتجميد إجراء العمليات الجراحية، ريثما تتوافر المستلزمات الطبية، يخشى اللبنانيون أن تكون رحلة الإرتطام المريع قد بدأت، مع كل ما تحمله من دمار للبنية البشرية في البلد، وما ستؤدي إليه من خراب في البقية الباقية من القطاعات الفاعلة، وما ستُفاقمه من معاناة وآلام للبنانيين الذين باتت أكثريتهم، وبنسبة خمسة وخمسين بالمئة تحت خط الفقر.
استمرار هذا الإنحدار المتسارع يوماً بعد يوم، والذي بدأت مؤشراته تظهر للعلن، من الإرتفاع الجنوني للدولار وأسعار المواد الغذائية، إلى الأزمات المتفاقمة في الكهرباء والمحروقات، سيُسرّع حركة الإرتطام المخيف، الذي ليس من السهل على أحد التنبؤ بنتائجه الكارثية، على مختلف المستويات الإقتصادية والمالية والنقدية، وخاصة المعيشية، وكل ما يعني الحياة اليومية للبنانيين.
لعل المأساة الكبرى التي سترافق السقوط الكبير تكمن في فقدان سيطرة السلطة المتداعية، ومعها المؤسسات المتهالكة في القطاعين العام والخاص على الأوضاع العامة في البلد، وبالتالي إختلال الإنتظام العام، مع كل ما يعنيه من إحتمالات الإنزلاق إلى فوضى إجتماعية، وفلتان أمني تحت ضغوط الحاجات الملحة للعائلات الفقيرة، في غياب الدولة الكامل عن المعالجات اللازمة، والتي كثر الحديث عن بعضها، لا سيما البطاقة التمويلية التي ما زالت تتعثر، تارة في إرباكات التنظيم، وتارات أخرى بسبب عدم تأمين المال المطلوب للتنفيذ.
وحصول الإرتطام الكبير سيتجاوز بتداعياته الزلزالية مسألة تأليف الحكومة العتيدة، التي ما زالت رهينة أساليب المعاندة والكيدية بين أهل الحل والربط، وخاصة بين رئيس الجمهورية وفريقه الحزبي، والرئيس المكلف والأطراف السياسية الداعمة، وكأن أوضاع البلد المتدهورة تسمح بترف تضييع الوقت الداهم، وهدر المزيد من الفرص المتاحة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
ماذا ينفع تشكيل حكومة تكون غير قادرة على وضع اليلد على سكة الإنقاذ؟ بماذا تُفيد الحكومة إذا لم تستطع تأمين السلع الأساسية من حليب الأطفال إلى المحروقات؟
ما هو دور الحكومة إذا كانت عاجزة عن فك العزلة المحيطة بالبلد، وإستعادة الثقة الخارجية بقدرة الدولة اللبنانية على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة؟
كيف يمكن وقف تدهور الليرة ووضع خطة متكاملة للأزمة المالية والنقدية، إذا لم تستعد الحكومة العتيدة قنوات الحوار مع الدول المانحة وصندوق النقد والبنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى؟
ولكن يبقى السؤال الأهم: هل لبنان ذاهب إلى تشكيل حكومة جديدة فعلاً؟
لا يبدو أن الولادة الحكومية وشيكة، بل لعل العكس هو الصحيح حيث سقطت كل المبادرات لتدوير الزوايا، والوصول إلى صيغ وسطية تُراعي التوازنات الداخلية، وتحقق اختراقاً في الأزمة الحكومية، وتُنهي حالة الشلل الراهن في مفاصل الدولة.
الوقع أن أزمة الحكومة تحوّلت إلى أزمة حكم مفتوحة على أسوأ الإحتمالات، أقلها إحتمال بقاء لبنان بلا حكومة حتى نهاية العهد الحالي، مما ينذر بأسوأ التوقعات، خاصة إذا بقي رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب مصراً على عدم تعويم حكومته، ورفضه الخروج عن النص الدستوري الذي يحدد مهام الحكومات المستقيلة بتصريف الأعمال في أضيق الحدود.
وحددت قرارات المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى إطار التحرك في الموضوع الحكومي، بما يحفظ صلاحيات ودور رئيس الحكومة في التأليف وفق النصوص الدستورية، ومشدداً على عدم اعتذار الرئيس المكلف، حفاظاً على موقع رئاسة الحكومة في معادلة السلطة، الأمر الذي أقفل باب التنازلات من جهة، وأوصد منافذ الترشيحات المحتملة من جهة ثانية.
المفارقة المحزنة فعلاً، أن رئيس الجمهورية وفريقه، يدركون مخاطر وأهوال الإرتطام المنتظر على العباد والبلاد، ومع ذلك ما زالوا غارقين في لعبة المحاصصات وتوزيع المغانم، وكأن البلد ما زال يتحمل المزيد من الفساد والهدر، وكأن الخزينة المفلسة ما زالت عامرة بملايين الدولارات للمشاريع والصفقات المشبوهة!
فمن يُنقذ لبنان من الارتطام المريع..؟