تكاثر القضايا الحياتية والبيئية، وخواء التصريحات السياسية والمقابلات التلفزيونية، دفعا اللبنانيين الى نوع من الغيبوبة في القضاء الأساسية، وتوجه لاعقلاني الى الاحتفالات المتنوعة، ومنها السيئ، ومنها الجيد، ومنها الرديء.
الغيبوبة الكلية تظهر من اهمال قضايا انجاز اتفاقات البحث والتنقيب عن النفط والغاز، اذا كان ذلك ممكنًا بعد تطورات سلبية طرأت على أسواق النفط والغاز، منذ سنتين.
يعلم اللبنانيون حكومة وشعبًا ان مؤسسة حكومية اميركية متخصصة بشؤون البحث والتنقيب عن النفط والغاز أصدرت تقديرات مشجعة، وخصوصاً بالنسبة الى الغاز، على امتداد المياه الاقليمية للشواطئ المتاخمة لجنوب تركيا، فسوريا، ولبنان، واسرائيل، وغزة وشرق مصر، ومساحة الاستكشافات التقديرية وازت 82 الف كيلومتر، منها 20 الف كيلومتر مربع في المياه الاقليمية اللبنانية. وكان لا بد ان تشمل التقديرات الفرص المتوافرة في المياه الاقليمية القبرصية. ولا تبعد قبرص في أقرب مواقعها من لبنان وسوريا أو اسرائيل أكثر من 100 كيلومتر.
في تاريخ نشر التقرير الاميركي عام 2010، وكانت هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية الاميركية، تولى خبير من مساعديها وضع تصور لتطوير ما سمي موارد النفط والغاز في الحقل الشرقي وأشارت توصيات التقرير الى ضرورة تخصيص الشركات الاميركية بعقود البحث والتنقيب في المنطقة، ولا سيما منها شركة “نوبل انيرجي”، التي هي شركة أميركية اسرائيلية حققت اكتشافات بسيطة قبل عامي 1999، ومن بعد عام 2010 و2011 حققت اكتشافات ملحوظة في المياه الاقليمية لاسرائيل وقبرص.
افترضت مخططات الخبير الاميركي تطوير تعاون بين دول حوض شرق المتوسط، بحيث تجمع طاقات التصدير وتستعمل في خط يمتد الى قبرص، حيث يمكن انشاء محطة تحويل للغاز المسيل. ويمتد الخط الى تركيا، ومن ثم من تركيا الى اليونان وايطاليا. وفي تقديرات الخبير أن ايصال الغاز بكميات كبيرة الى تركيا يوجّه ضربة الى صادرات الغاز الروسية، التي تغطي 60 في المئة من حاجات تركيا ونسبة مرتفعة من حاجات ايطاليا.
كان المخطط جيوسياسياً في المقام الأول. فقد هدف الى اشراك اسرائيل، مع مصر وسوريا ولبنان وقبرص، في مشروع ضخم مشترك وتجاوز اختلافات على تحديد الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل من جهة، وبين لبنان وقبرص من جهة أخرى، كما ان تركيا كانت تطالب بحصر حقوق منح اتفاقات البحث والتنقيب بها قبالة المنطقة التي تسيطر عليها في قبرص.
خلال السنوات المنقضية منذ وضع التقرير التصوري، تحققت اكتشافات مهمة في المياه الاقليمية الاسرائيلية. فحقل تامار الذي يحتوي على تسعة تريليون قدم مكعب من الغاز اكتشف عام 2009، وهذا الحقل يغذي محطات الكهرباء في اسرائيل بنسبة 60 في المئة من حاجاتها، وهو حقل قريب جدًا من حدود المياه الاقليمية اللبنانية المتاخمة لامتداد المياه الاقليمية الاسرائيلية. وحقل ليفيتان، أي العملاق اكتشفته عام 2010 شركة “نوبل” واحتياطه يبلغ 18 تريليون قدم مكعب وتطويره يحتاج الى تمول اضافي، وشركة “نوبل” حققت اكتشافاً ملحوظاً في المياه الاقليمية القبرصية هو حقل افروديت الذي يبلغ احتياطه تسعة تريليون قدم مكعب.
خلال شهر آب المنصرم، أعلنت شركة النفط الايطالية “ايني” عن اكتشاف حقل ضخم للغاز في المياه الاقليمية المصرية يقدر احتياطه بما بين 25 تريليون و30 تريليون قدم مكعب وهو يسمى حقل الزور.
قبل كل هذه الاكتشافات المهمة، كانت شركة الغاز البريطانية – التي باتت تملكها منذ أيام شركة “شل” – أعلنت عام 2000 اكتشافها مع شركة “سي سي سي” حقلاً للغاز في مياه غزة قدر مخزونه ب1.4 تريليون قدم مكعب. وعلق استثمار هذه الحقل على طلب اسرائيل تخصيص قسم ملحوظ من انتاجه لحاجاتها، قبل حاجات غزة، التي يعتمد فيها معمل لتوليد الكهرباء على استيراد الغاز من اسرائيل، واكتشاف حقل غزة بقي حتى تاريخه دون تطوير.
الاكتشافات المتحققة مهمة بالتأكيد، وخصوصاً اكتشاف شركة “ايني” في مصر، وذلك لان مصر كانت من كبرى الدول المصدرة للغاز المسيل منذ سنوات، لكن سوء الادارة وعقداً مجحفاً مع اسرائيل أديا الى عجزها عن كفاية حاجاتها. ولذا فان الاكتشاف المصري الذي هو الاهم حتى تاريخه، والذي يحتاج تطويره الى ثلاث سنوات وسبعة إلى ثمانية مليارات دولار ليتحقق الانتاج منه بنسبة ملحوظة، سيخصص انتاجه لحاجات مصر المتعاظمة وتالياً لا مجال لاعتباره مرشحًا لتشكيل الصورة التي تخيلها الاميركيون.
الأمر الأهم من كل الاكتشافات المحققة اتفاق وقع بين سوريا وروسيا قبيل عيد الميلاد عام 2013، وبموجب هذه الاتفاق اعطيت الشركات الروسية الحق الحصري في اكتشاف مكامن الغاز والنفط في المياه الاقليمية السورية، وتالياً اذا تحققت اكتشافات – وهذا الأمر مرجح – فقد تكون كافية لانجاز أعمال تصدير الى تركيا، فيتبخر التصور الاميركي لإبعاد الروس عن السوق التركية التي يزودونها حالياً، ودونما انقطاع على رغم تأزم العلاقات بين البلدين نتيجة اسقاط الطيران الحربي التركي طائرة روسية في تشرين الثاني 2015.
الاتفاق السوري – الروسي على اكتشاف موارد النفط والغاز في المياه الاقليمية السورية تعزز بالاتفاق العسكري بين البلدين الذي انجز في آخر ايلول 2015، وهذا الاتفاق يوفر لروسيا حرية اقامة قواعد بحرية خاصة باسطولها على الشواطئ السورية، وحرية انجاز مطارات حربية، كما يجيز لروسيا التدخل عسكرياً على الارض اذا اقتضى الامر وتعرضت قواتها الجوية والبحرية الموجودة حالياً لأي اعتداء. وحينما انجز الروس مطارًا عسكريًا على مقربة من اللاذقية، أقدم الحكم السوري على تهجير سكان سبع قرى قريبة من المطار واعطي الروس السيطرة على هذه القرى المفرغة من السكان.
بكلام آخر، هذا الاتفاق الاخير وفر لروسيا سلطات على الأراضي السورية تفوق بكثير ما وفرته الاتفاقات السورية – اللبنانية سابقًا، ويمكن القول إن سوريا في السنوات المقبلة – أو القسم من سوريا الذي يبقى في ايدي الحكم الحالي – سيكون تابعًا لروسيا أكثر بكثير مما حصل بين سوريا ولبنان، وكل ذلك بموافقة اسرائيلية خفية وعلنية.
لقد اجتمع الاسبوع المنصرم في نيقوسيا رئيس وزراء اسرائيل والرئيس القبرصي ورئيس وزراء اليونان، وكان الغرض من الاجتماع الاتفاق على مشروع مشترك لمدّ خطوط للغاز الى قبرص، ومنها الى اليونان بدل تركيا، ذلك ان المشروع السابق بات منسيًا نتيجة تطورات عقد سوريا مع روسيا واكتشاف الغاز بوفرة في المياه الاقليمية المصرية.
وإنجاز الاتفاقات بين اسرائيل وقبرص واليونان وبين سوريا وروسيا، عدل صورة تطوير مكامن الغاز والنفط في شرق المتوسط جذرياً، ولبنان غائب عن أي تطور وأسعار النفط والغاز تتراجع – وان هي مرشحة للارتفاع بنسبة مقبولة قبل نهاية السنة والتقدير لمجلة “الايكونوميست” في عددها الخاص بتوقعات سنة 2016 – ولبنان ليس في الصورة.
تبدو الصورة المتعلقة بلبنان محزنة، وأدرج استخلاصات من دراسة وضعها الدكتور ربيع ياغي الذي هو خبير في قضايا النفط والغاز ومستشار في هذه القضايا لمجلس النواب.
يقول:
أين هو لبنان من كل ما يجري من نشاطات بترولية وغازية في الحوض الشرقي للبحر الابيض المتوسط؟
لا شك في ان دول الجوار تتقدم على لبنان بأعوام في استكشاف مواردها البترولية واستخراجها، وبالتالي في امكان دخول الاسواق الاقليمية والعالمية.
ولا شك ايضًا في ان لبنان لم يحدد بعد حدود منطقته الاقتصادية الخالصة، ولم يعمد الى ترسيمها بشكل مبرم ونهائي مع كل من قبرص واسرائيل وسوريا، سواء أكان الاتفاق ثنائياً او ثلاثياً (في المناسبة ترسيم الحدود البحرية مع سوريا معلق على الاتفاق مع روسيا).
ولا شك في ان قانون الموارد البترولية الذي أقر في آب 2010 فيه الكثير من الشخصنة على حساب العمل الجماعي.
ولا شك في ان سرطان المذهبية والطائفية قد نخر أهم المراسيم التطبيقية التي صدرت أو قد تصدر… ويكفي.