فرّخت مقولة «مكافحة الإرهاب» الأميركية طائفة من «مكافحات الإرهاب» عبر العالم، ليست كلّها تتبنّى تحديد النطاق نفسه، بل أنّ كثيراً منها يعفي نفسه أساساً من أي تحديد، ويكتفي بالإستعادة الإعتباطية لمقولة «مكافحة الإرهاب».
لا يعني ذلك أنّ مقولة «الإرهاب» ليس لها من دلالة قائمة بذاتها. بالعكس. ابتذال النظرة النسبية بحيث يصبح الإرهاب مجرّد نعت بلا أي معايير موضوعية هو الرياء عينه. كان انتظار التعريف الدولي الموحد للإرهاب هو بضاعة النصب الفضلى عند الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. بانتظار تأمين هكذا إجماع مستحيل كان يمكن لنظامه أن يزاول «دعم الإرهاب» ومكافحته الخاصة به للإرهاب والتعاون مع الدول الغربية على مكافحة الارهاب في وقت واحد، اي كان يمكنه ان يتعاطى في «مقاولات الارهاب»، بالاستيراد والتصدير والاستثمار وخلق الآفاق الاستثمارية. بالضد من هذه النسبية التي تتلطى وراء غياب ضبط دولي للمصطلح ودلالته، فإن مقولة الارهاب تعرّف نفسها بنفسها: فكل استهداف للمدنيين من حيث هم مدنيون، وكل استهداف للعسكريين من خارج ساحات ومراكز القتال، هو ارهاب، علماً ان هذا التأطير للمفهوم يبقيه متداخلاً مع مفاهيم أخرى لها أرصدة قانونية متفاوتة هي الأخرى، كجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، تماماً مثلما أنّ الارهاب ارهابان، ارهاب الجماعات وارهاب الدولة. يبقى انّ القانون الدولي معني أساساً بالارهاب الدولي وليس بالنطاق المحلي للارهاب. الجماعات التي تصنّف في خانة الارهاب الدولي يفترض انها، في استهدافها المدنيين كمدنيين، وفي عدم التزامها بقوانين الحرب، تتجاوز أيضاً الحدود الوطنية الفاصلة بين الدول. اذاً، هناك تراكم قانوني ومعرفي لا يمكن تنحيته جانباً كما لو ان مقولة الارهاب لا معنى لها قبل الاجماع الدولي على تعريفها.
المثير هنا ان النظام نفسه الذي ما زال يضيء قنديل ديوجين خاصته، في عتمة التقنين الكهربائي المتزايد دمشقياً، بحثاً عن تعريف للارهاب، يدمن في الوقت نفسه مقولة «مكافحة الارهاب». هو يكافح الارهاب ويكافح من أجل اعداد تعريف دولي له ذات يوم.
والمفارقة هنا، اذا كان هناك حد ادنى من التأطير الموضوعي لماهية الارهاب لكن ليس هناك مثل هذا بالنسبة الى «مكافحة الارهاب». ذلك ان هذه المقولة يمكن أن تفهم على انها «مكافحة الارهاب بالارهاب». بل ان هذا هو الجاري على قدم وساق في عالم اليوم. هناك أنظمة عديدة تعتمد على ارهاب الدولة في مواجهة ارهاب الجماعات، وهناك انظمة لا تقل عنها تعتمد على ارهاب الدولة زائد ارهاب بعض الجماعات ضد ارهاب بعض الجماعات الاخرى.
«مكافحة الارهاب بالارهاب» هو ما يطل برأسه علينا اليوم في سياقات متداخلة لكن مختلفة، لبنانياً وسورياً وعراقياً. هذا النوع من مكافحة الارهاب يُخلّ بالتعريف الأولي للارهاب كاستهداف قصدي للمدنيين، لأنه يقوم بإنكار الصفة المدنية على شرائح ومناطق بحجة أنّها تؤوي ايجابياً ارهابيين وانها «بيئة حاضنة». هذه المقولة الأخيرة هي التجسيد بامتياز لفكرة «مكافحة الارهاب بالارهاب».
لا يعني هذا ان المكافحة الغربية للارهاب تختلف بشكل مطلق. هنا أيضاً طغت أحوال الاستثناء والاستنساب والتنظير للتعليق الجزئي للقانون ولمعايير حقوق الانسان في مواجهة الحركات والشبكات التي تصنّف ارهابية. يبقى أنّ اعادة اخضاع مكافحة الارهاب للقانون، وتحكيم حقوق الانسان، هما الشغل الشاغل للكثيرين هناك، ولا يمكن أن يستفرد أتباع «الحلول الأمنية» الصرف بالكرّة لوحدهم دون أخذ ورد. هذا يختلف بالنسبة الى بلدان صارت فيها «مكافحة الارهاب» طاغية على الخطاب السياسي لمختلف القوى داخلها، بل الاخطر من ذلك، فإن تحويل «مكافحة الارهاب» الى العنصر البديل من العقود الاجتماعية والمواثيق الوطنية لبناء الأوطان، على ما يقترح في العراق وسوريا ولبنان، هو التبرير المحض للامعان في الأوضاع الكارثية والتدميرية. في هذه البلدان، وفي الوقت نفسه الذي ينعدم فيه أي اطار أكاديميّ متعلّق بدراسة الظاهرة الارهابية، يتحوّل عدد كبير من المثقفين والأكاديميين والاعلاميين الى «مكافحي الارهاب» بشروط المكافحة الارهابية له. أي برفعه كحجة لخطاب الكراهية ضد شرائح بعينها أو ضد مناطق بعينها. من جهة يجري اختزال كل ما هو حقوقيّ وقانونيّ وثقافي واجتماعي الى ما هو أمني، ومن جهة يجري اختزال كل ما هو أمني الى ثنائية ارهاب ومكافحة ارهاب. خطأ على خطأ. مكافحة الارهاب بالارهاب شيء، ومحاربة الارهاب من ضمن طرح متكامل، يلتزم جادة حقوق الانسان ومرجعية القانون شيء مختلف تماماً.