المؤتمر «الفسادي» كان برعاية وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإداريّة مي شدياق
كمَن ألقى على منظّمي المؤتمر ماءً بارداً، فارتشعوا، كان سؤال أحد الحاضرين: «ماذا عن المبالغ بعشرات الملايين التي تأتي إلى الجمعيّات (غير الحكوميّة) مِن الخارج، كيف عم تنصرف؟ وشو أهداف الجهات المانحة؟». لم يُجبه أحد. قفزوا فوق سؤاله لمصلحة أسئلة «ألطف». سألنا صاحب السؤال، فؤاد يحيى، بعد انتهاء المؤتمر عمّا جرى، فأجاب: «ما شفت كيف غمزه؟ ما بدهم تنفتح السيرة. عموماً أنا سألت لأن بعرف موجود بالقاعة ممثّل لـ»USAID» (الوكالة الأميركيّة للتنميّة الدوليّة)… خليه يسمع». حصل هذا، أمس، في مؤتمر «حواري» نظّمته جهة اسمها «شبكة المساءلة والحكم الرشيد» (inf.act) حول أهميّة الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد. لم «تُفرّخ» لتلك «الشبكة» حسابات على مواقع التواصل الإلكتروني إلا قبل أيّام قليلة. هي عبارة عن أربع جمعيّات لبنانيّة غير حكوميّة، ويبدو أنّ الجهة الدوليّة المانحة اشترطت عليهم، مقابل التمويل، أن يتّحدوا ضمن «شبكة». قبل سؤال يحيى، المقفوز فوقه، نجح أحد الحاضرين في خطف «الميكروفون» ليطرح سؤالاً، إلا أنّ جوليان كورسون، أحد «ميسّري» النقاش (بحسب التعريف عنه في الورقة)، وقف منفعلاً، كمَن رأى عفريتاً، رافضاً أن يَطرح ذاك الشاب سؤاله: «لا لا، ممنوع، ممنوع، أنت مِن أهل البيت». أجابه الشاب: «لا، أنا مش مِن أهل البيت، وبدي اسأل». نجح أحدهم في سحب «الميكروفون« مِن يده. ارتفعت الأصوات. ما هذه البهدلة؟ بدا أنّ ثمّة فضيحة لا يُراد لرائحتها أن تنتشر، وكأنّ هناك «جيفة» تتصارع على قضمها ضباع… ثم أكمل المؤتمر أعماله. التقينا ذاك الشاب خارج القاعة، في إحدى ردهات فندق «حبتور» (سنّ الفيل)، وسألناه عن سبب منعه مِن السؤال: «بدّك تسألهم، بعرفهم وبيعرفوني، بس لا مش صحيح إنّي مِن أهل البيت. أعطوا المجال مِن بعدي لأربعة أسئلة إضافيّة». الظاهر أنّك كنت تُريد أن تفضح شيئاً؟ هزّ الشاب برأسه، ومشى. ما أجواء العصابات هذه؟ ما الذي يحصل؟
في الورقة الموزّعة في المؤتمر، التي يظهر فيها شعار «USAID» أكبر حجماً مِن شعار «الشبكة» المُنظِمة إيّاها، نجد نبذة عن الأخيّرة: «تتألف مِن جمعيات ومؤسسات لبنانيّة معنيّة بموضوع الشفافيّة والحوكمة في لبنان. تأسست عام 2017 مِن خلال دعم برنامج بلدي – كاب المموّل مِن الوكالة الأميركيّة للتنميّة الدوليّة، وتهدف إلى توحيد جهود أعضائها للدفاع عن حق المواطنين في الوصول إلى المعلومات مِن خلال حملات مناصرة مستهدفة». هذه النبذة تلخّص كثيراً مِن المشهد السالف. في الورقة نفسها، نبذات عن أعضاء «الشبكة» المذكورة، وهم: «الجمعيّة اللبنانية لتعزيز الشفافيّة – لا فساد»، جمعيّة «نحن»، شركة «ArabiaGIS»، وأخيراً «المؤسسة اللبنانيّة للسلم الأهلي الدائم». إذاً، الحكم الرشيد، الحوكمة، منصّة، مناصرة… وتكتمل عدّة الشغل. علينا أن نحفظ هذه المصطلحات «الحديثة» جيّداً. الأستاذ كورسون، الذي منع ذاك الشاب مِن طرح سؤاله، يُحب هذه المصطلحات حبّاً جمّاً. بلغت الكلاسيكيّة بالأخير مبلغاً إلى حد أن يتوقّع تصفيق الحاضرين لقوله: «بدل ما نلعن الظلمة خلينا نجرب نضوي شمعة». كانت أجواء المؤتمر «مرتّة» إلى هذا الحدّ. لعلّه، ومعه سائر منظّمي المؤتمر، ندموا على دعوة النائب السابق غسان مخيبر ليُحاضر في المحور الثاني. أزعجهم كثيراً. أخبرهم عن «جهلهم» في الموضوع الذي يُناقشونه. فاجأهم: ليرفع يده مَن قرأ مِنكم الاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة الفساد؟ لم يرفع أحد يده. بدوا هذه المرّة أشبه بـ«عصابة» (مَع سوء الظن) أو أشبه بهواة سذج (مع حسن الظن)… وسوء الظنّ مِن حُسن الفطن. ذهب مخيبر أبعد في «لطشاته» القويّة: «كتير جمعيات للأسف لا تُبادر إلى خطوة إلا بتمويل وحجز فندق ومصاريف… قبل ما كنّا هيك، ما كانت الصورة هيك لما بلّشنا من سنة 2006 نناقش موضوع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد». ارتبك المنظّمون هنا. لم يعلّقوا بكلمة. هكذا، يبدو أن «المجتمع المدني» (أو فرع «المافيا» مِنه) قرّر ألا تفوته «همروجة» مكافحة الفساد. عمّا قريب سيشعر اللبنانيّون بالقرف مِن هذه الكلمة. لقد أصبحت الآن «مجلجقة» والقادم أكثر «جلجقة». عمّا قريب سنفضّل بقاء الفساد على أن نسمع عن مكافحته. بالمناسبة، أحد «قادة» حملة «طلعت ريحتكم» كان حاضراً في المؤتمر. جلس بداية في المقاعد الخلفيّة، قبل أن يتقدّم إلى الأمام، ثم يتراجع إلى الخلف. بدا متفاعلاً مع الحدث. بالمناسبة، أين أصبح «نشاط الزبالة»؟
اللذيذ أن المؤتمر «الفسادي» هذا كان برعاية وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإداريّة، مي شدياق، التي ألقت كلمة وغادرت سريعاً. لا بدّ مِن رعاية حكوميّة للأشياء غير الحكوميّة. غادرت لأنّ لديها ارتباطات أكثر أهميّة. بالنسبة إليها، مكافحة الفساد «تحتاج إلى جهد الوزارة والإعلام والمجتمع المدني… أحتاج مساعدتكم». بعدها ألقى رئيس لجنة الإدارة والعدل، النائب جورج عدوان، كلمة: «الله يعين الناس يلي بيضطروا يروحوا على القضاء… هو قدريّة أكثر مِنه قضاء». جرى التصفيق له. فعلاً، هذه أصاب بها، ولا يسعنا أن نقول لنائبنا سوى: «نيالك إنّك مش مِن الناس يلي بيضطروا يروحوا على القضاء». تحدّث بعده مدير برنامج «بلدي – كاب» فارس الزين. تحدّث عن حوكمة ومناصرة وتحالف ومساءلة وشفافيّة، وما إلى ذلك. تُرى لِمَ لا يُحدّثنا هذا «تبع كاب» عن الشفافيّة في تمويل المنظّمات غير الحكوميّة نفسها؟ مثلاً، كم هو المبلغ الذي تموّلت به «الشبكة» أميركيّاً، وكيف صُرِف ويُصرَف، على قاعدة: ابدأ بنفسك؟ بلاهة أن يعتقد أحدنا أن تلك الجهات الدوليّة المانحة لا تعلم بـ«فساد» كثير مِن متلقّي التمويل، مِن جمعيّات كثيرة، ومع ذلك يستمر التمويل. يا لكرم «الكابتن» دونالد ترامب، السخي علينا بأموال دافعي ضرائب بلاده، بهدف إنقاذ بلادنا مِن الفساد. كرم ترامب معروف للجميع، طبعاً، كما في تمويله بناء الجدار الحدودي لبلاده مع المكسيك.
أسف مخيبر لكوننا أمام جمعيّات لا تٌبادر إلى خطوة إلا بتمويل وحجز فنادق ومصاريف
حضر المؤتمر النائب جورج عقيص، محاضِراً، ومثله عضو المجلس الدستوري (الخالصة مدّته) أنطوان مسرّة، إضافة إلى مسؤولين حكوميين ودوليين وخبراء وما شاكل. هؤلاء جميعهم أخبرونا أنّ هناك مشكلة فساد. شكراً. ما العمل، كخطة واضحة، في المكان والزمان؟ الله أعلم. شكراً. راحوا يتحدّثون عن مشاكلهم هم مع «الدولة». ما المطلوب الآن مِن الناس، أن يقدموا لكم المساعدة يعني؟ وقفت ناشطة اسمها ربيكا، مِن بين الحاضرين، وقالت لمنظّمي المؤتمر والمحاضرين: «أنا ناشطة، بس بلا شغل، هالمحاضرة اليوم سامعتها هي نفسها كذا مرة من كذا سنة». وقف آخر ليسأل، فكان تقديمه لنفسه أهم مِن سؤاله: «أنا بشتغل بـdomain مكافحة الفساد». بالمناسبة، في كلمة النائب عقيص وردت جملة، بدت كنعرة ذكيّة، إذ قال في سياق حديثه عن قوانين مكافحة الفساد: «القانون بالمناسبة ما بيحكي عن الفساد داحل القطاع الخاص ولا عن الفساد في الجمعيّات غير الحكوميّة». ما هذا؟ لم يكن ينقص إلا أن يخرج مِن بين الحاضرين مَن يتفل على المؤتمر ومنظّميه ومموّليه. ثمّة إشارات كثيرة، بدأت تظهر في الآونة الأخيرة، لموجة «قرف شامل» بين اللبنانيين مِمّا يُسمى جمعيّات ومنظّمات غير حكوميّة. على هؤلاء، ومعهم الجهات المموّلة، أن يقرأوا هذه الإشارات جيّداً، إذ قد تتطوّر الأمور لاحقاً، على مستوى ردود الفعل الشعبيّة، إلى ما لا تحمد عقباه… أو ربّما تُحمد عقباه. باختصار، طفح الكيل، أوقفوا هذا القرف.