ما بين الفلسطيني وعدوِّه، احتلال. ما بين الآخرين وأعدائهم، آيات وطوائف وأعراق و «بابل» من الدول وسفلة الأنظمة. الفلسطيني يسمّي «إسرائيل» عدوَّه الحقيقي. من هنا البداية. والبداية هنا هداية. كل ما عداها غواية وضلال. الفلسطيني، يعرف عدوه الحقيقي. يعرفه، كما يعرف خطوط الحظ السيئ في يديه. جسده ممتلئ، بشهادة الجرح والجريمة، بما ارتكبته آلة الاحتلال. روحه من مرارة الإذلال والإنكار والتمييز ولا مبالاة العالم بمأساته المقيمة على مدار الساعة… الفلسطيني، لا زغل في عينيه، يرى العدو الحقيقي من أمامه ومن خلفه ومن كل المسام، ويدرك أن الدروب مقفلة والحدود مغلقة والفضاء مطفأ والأفق مسدود، والعالم مشغول عنه بفتنة النار في الشام والعراق واليمن وهلم جراً مما تبقّى من عرب، بعدما انزاحوا عن العروبة إلى فسطاطَيْ التسنن والتشيُّع.
في الطريق إلى قوته اليومي، وبؤسه اليومي، يشعر أنه وحيد. وحيد جداً، ولا وضع يشبه مكان إقامته ومدار حركته وضآلة أحلامه. يبحث عمّن معه. العرب صحراء جرداء. العالم متورط في رفاهية «حقوق الإنسان» فقط، ويتغاضى عن حقوق الشعوب. هو عالم، بإنسان يشبهه ولا يشبه الفلسطيني. هو عالم مطيع لما تمليه مرجعيات صهيونية، ويطالب الفلسطيني بالتسليم «بالحق الإسرائيلي» أولاً. وليس بعد أولاً، لا ثانياً ولا أخيراً…
في الطريق إلى بؤسه اليومي، يقارن بينه وبين «سكان السجون» في «إسرائيل». هو يشبههم، وكل الطرق تؤدي إلى السجن. يعترف الفلسطيني أنه إنسان بطموح عادي، وأنه كائن طبيعي، وكائن معقول، وطموحه أن يكون له بيت وعائلة وقرية ومدينة ووطن وعَلم. رغبته أن يعمل بعرق جبينه أو بجهد عقله أو بفعل جسده. وعندما تضيق المساحة بين عينيه وقدميه، يتوجب عليه أن يفي بشرط الحرية، ويوسّع طاقته لتكون خطواته في مرمى عينيه. يريد أن يتمتع بحرية بقياس معتدل، بعيش لائق، بطموح متواضع… يريد أن يكون كائناً بشرياً. غير أنه يصطدم، على مدار زمنه الخاص، بحصار من جدران وجنود وخنادق ونقاط تفتيش وحواجز إهانة وإجراءات تعذيب وتمييز. يرى نفسه على مدار أيامه، باحثاً عن فرصة نجاة، من اعتقال تعسفي، من مطاردة مشاعية، من رصاصة غير طائشة، من سجن، هو بيت الفلسطيني المتهم بلوثة الحرية وقبضتها. لا يجد في مسيرته إلى بؤسه اليومي، إلا سيرته المكتوبة من قبل، عندما سُجِّلت باسم غيره الذي يشبهه. سيرة مَن سبقوه: لاجئ، سجين، محكوم، مطارد، متَّهم، ولا علة فيه أبداً، سوى أن جريمته الوحيدة المبرمة، أنه فلسطيني، ولا يزال يقيم في فلسطين، ويحلم كل يوم بفلسطين لأهلها.
ليس أمام الفلسطيني غير أصابع يديه، غير فسحة كفه الواسعة. من قبل، أمسك بالحجر ورماه، حتى تكسَّرت عظامه، بعصا إسحق رابين، الحائز على «نوبل» المبالغة في خيانتها وحقارتها… من قبل، وبأصابع يديه، امتشق السلاح حتى فاض دمه. خانه الحبر في «أوسلو». خرج الجنود من الشوارع والساحات وأطبقوا على المدن والبلدات والمخيمات، بحصار خانق يقطع القلب عن الرئتين، والدم عن الجسد… من قبل، عوَّل على جيوش عربية، مدرَّبة على هزيمة شعوبها، فانهزمت بلا قتال ولا مشاركة في معركتها مع «إسرائيل».
دول تطوّعت كي تكون مهزومة. الهزيمة تحميها من واجب الحدّ الأدنى، فلسطينياً… مَنْ قبل اخترع وهماً مقبولاً: وطناً له ووطناً في وطنه للإسرائيلي. بعد طواف قرن، وجد أنه صديق وفيّ للمستحيل. وأنه يجرب ترويض المحال، وأن هذا حظه في عالم سيئ السمعة والسلوك والأخلاق. وما تبقّى له من أمل، انتهى بعد حرائق التآمر على «الربيع العربي». (ولا بد من التصحيح. الربيع العربي ما كان مؤامرة، بل كان ضحية تآمر أهل السلطة والمال والنفط والمذاهب والعالم كله عليه).
لا يملك الفلسطيني غير أصابع يديه. هي رهن إرادته. يحمل السكين ويمضي، يقطع صلة الوصل بماضي الإحباط والهزائم والخيارات الميؤوسة. يقطع علاقته بالعجز والاتكال وانتظار «الثورة الكبرى» و «الحلول الكبرى» و «المفاوضات المدبَّرة». بأصابع يديه وراحة كفه، يستخدم السكين والدهس. لا يملك غيرهما.
هذا هو المتاح: انتفاضة في شهرها الخامس، بلا قيادة ولا تنظيم. القيادات مشغولة بتدابير عقلانية. تؤيد ولا تشارك. السلطة مع التحرك السطحي ولكنها لا تتحرَّك ولا تحرِّك أحداً… هذه «الانتفاضة» تملأ الفراغ السياسي في الضفة والقطاع. برغم إدراكها أن الانتصار مؤجل. وأن العقوبات قاسية وقاتلة: إعدامات ميدانية، نحر للمنازل، اعتقال للجثامين، إلى آخر مبتكرات آلة التعذيب والتشفي الإسرائيلية.
ما يحسب الآن، موقف الفلسطيني من «حملة السكاكين»، الأكثرية عيونها على رعاية القبضة وقوة النصل، ودموعها على الشهداء. ما هو جديد جداً، أن الانتفاضة لا تقول بل تفعل. تنتفض من دون قرار سياسي ومن دون قيادات تنظيمية متقاعدة، ليست موعودة الآن بغير «تدفيع الاحتلال كلفة باهظة، ودفعه إلى الخوف والمزيد منه. تودّ لو أن العدوى تصل إلى فلسطينيي الـ «48»، عندها تميد الأرض تحت أقدام الاحتلال: لا أمن له فوق أي بقعة في فلسطين، فليُصَبْ بالهلع. ليس أمامه إلا أن يقتات من كوابيس القبضة الفولاذية، لا أكثر من ذلك. من فضائل الانتفاضة أنها لا تعوِّل على سلطة تستهلك العجز، وعلى سلاح انكفأ بحجة «الحرب السلمية». أدارت الانتفاضة ظهرها لانقسام فتَّاك. وحّدت نصلها مع القضية الأولى: لا بد للاحتلال أن يزول.
الدم في فلسطين واضح. الدم في غيرها فاضح. قلة نادرة وناصعة لا تزال تنتمي إلى فلسطين. البيئات التي احتضنت فلسطين، اهتدت إلى الضلالات الدينية والمذهبية. أخذت هذه الضلالات في طريقها، فلسطينيين يراهنون على تحرير الدين، بديلاً عن فلسطين.
مَن يحتضن اليوم هذا الفلسطيني العائد إلى وطنه البعيد بدمه؟ من ينتمي مرة أخرى، من خارج فلسطين، إلى هذا الفلسطيني الحاف، من دون أي زينة سياسية أو تنظيمية أو عقدية أو دينية؟ مَن يسمع صوته المكتوم ويرى موته الحي، بالصوت والصورة؟ هل من فسحة له في الإعلام المكتظ بالأحقاد؟ أم نتركه وحيداً وحيداً وحيداً.
في أزمنة الحرائق والكوارث، ومن عمق المعاناة العبثية في حروب العرب البائدة والقبائل العائدة والمذاهب السائدة، هناك فرصة لتصويب الاتجاه. البوصلة تشير إلى فلسطين، فعودوا إليها.