IMLebanon

«القائد البطل» يستولد الفراغ.. وإسرائيل تحالف «داعش»!

يتبدّى المشرق العربي خصوصاً، والوطن العربي عموماً، صحراء مفرغة من العمل السياسي، تجتاحها رياح التعصب باسم الموروث الديني، في مواجهة افتقاد الهوية والضياع في غياهب العلمنة، وسائر موجات الهرب من الذات بذريعة الالتحاق بالعصر.

تهاوت الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية، بما في ذلك النقابات المهنية، وتمّ إفراغ مجال العمل العام من قواه الحية بعدما استولت السلطة، وهي عسكرية في الغالب الأعم تساندها أجهزة استخبارات متعددة الفروع تشمل «اختصاصاتها» مختلف مجالات النشاط السياسي والفكري، على الحياة العامة بمنابرها وساحاتها ودوائرها الحزبية وهيئاتها الاجتماعية.

ولقد تمدد هذا الفراغ وهيمن، ناشراً الخوف من الحاضر واليأس من المستقبل، ورحلت القوى الحية إلى الصمت أو إلى الخارج، تبيع كفاءاتها وأفكارها وطموحاتها لمن يدفع، بعدما حُرمت من أن تنفع بها بلادها.

دار التاريخ بهذه الأمة دورة كاملة، فأعادها إلى نقطة الصفر في سعيها نحو مستقبلها الأفضل بالوحدة التي تؤكد القدرة، وبالحرية التي تفجر الطاقات والمواهب وتبلور خط السير عبر فرز قاطع بين الحلفاء والمناصرين من جهة، وبين الخصوم والأعداء، في الداخل والخارج، من جهة ثانية.

لكأن الأمة تقهقرت إلى الخلف قرناً كاملاً، في عصر الدقيقة بل الثانية، لتجد نفسها ممزقة الجنبات، مهدورة الكرامة، تائهة عن أهدافها، تفتقد قدرتها على الفعل، مفتوحة للقادر على أخذها بالقوة أو بالحيلة، عبر استغلال الفقر فيها – وهي بمجموعها الأغنى – أو باستثمار تخلفها بعدما كانت قد وضعت أقدامها، أو هكذا افترضت أو توهمت، على باب العصر.

ففي مثل هذه الأيام من القرن الماضي، وفي غمرة الاستلام والتسليم بين الاستعمار العثماني (التركي) باسم الدين والخلافة، والاستعمار الغربي ممثلاً ببريطانيا وفرنسا، أساساً (وايطاليا في ليبيا)، أخذت تتبلور الجهود ـ فكرياً وثقافياً ومن ثم سياسياً ـ لاستعادة الهوية الأصلية الجامعة لهذه الأمة. وها إن العرب يجدون أنفسهم اليوم في مواجهة أسئلة حول الهوية والحق في تقرير المصير والبحث عن غدهم الذي يتهدده الضياع، مثلهم قبل قرن كامل، بينما اختلف الزمان فصارت وحدة القياس هي الساعة أو أقل وليس الجيل أو السنة أو الشهر أو حتى اليوم.

ولقد خاضت شعوب هذه الأمة كفاحاً مجيداً من أجل استعادة هويتها واستقلال قرارها وإعادة بناء أوطانها، في مواجهة الاستعمار الخارجي الذي بلغ ذروة عدائيته عبر اقتطاع فلسطين لتقديمها غداة استقلال هذه الأقطار دولة للحركة الصهيونية باسم إسرائيل، لقطع التواصل بين المشرق والمغرب، بعنوان مصر.

ولم يكن الرد على مشروع الكيان اليهودي على أرض فلسطين، وكذلك على الاستعمار الغربي عموماً، دينياً، بل كان عقائدياً وسياسياً بالدرجة الأولى. وهكذا توالى ظهور الأحزاب والحركات السياسية في المشرق بالذات على قاعدة فكرية ـ قومية تقدمية، عموماً. وكان لافتاً أن يتصدر قيادة هذه الأحزاب مناضلون عرب مسيحيون بالدرجة الأولى (أنطون سعاده من جبل لبنان، «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، وميشال عفلق من قلب دمشق، «حزب البعث العربي الاشتراكي»، وجورج حبش من قلب فلسطين، «حركة القوميين العرب»، فضلاً عن الأحزاب الشيوعية التي برزت في الصفوف الأولى لقياداتها شخصيات مسيحية أو من أصول غير عربية، وبالذات كردية، كنقولا الشاوي في لبنان، وخالد بكداش في سوريا، وعزيز محمد في العراق..).

بذريعة فلسطين وضرورة الرد على الهزيمة فيها وضرب المشروع الصهيوني ممثلاً بإسرائيل، اختطف «العسكر» دوراً قيادياً يتجاوز قدراتهم، خصوصاً أنهم ـ بحكم تربيتهم ـ يتصرفون بقوة الأمر. أما الأدهى منهم، فقد اتخذ من الشعار الحزبي ستاراً لتنفيذ مشروعه في السيطرة على السلطة. هكذا احتلت مسرح العمل العام أنظمة عسكرية تموّه حقيقتها برايات العروبة أو الماركسية اللينينية (حتى لا ننسى تجربة اليمن الجنوبي)، لا سيما بعدما فشلت أحزاب البرجوازية الوطنية في استقطاب الجماهير كما في بناء «الدولة».

تم تدريجياً تغييب الشعب عن ساحة العمل العام، وتم اختصار الدولة بالحزب، ثم أخذت غواية السلطة الحزب إلى الاستعانة بالعسكر بوهم اختصار مرحلة التحول، فانتهت التجربة بأن التهم الجيش الحزب وتولى «الأقوى» في الجيش احتكار السلطة، مموّهاً حقيقة تفرده بالشعارات الحزبية ذات الرنين. ومن أجل السيطرة الكاملة على الجيش، كان بديهياً أن يلجأ «الرفيق القائد» إلى تطهير الصفوف من المشكوك في ولائهم لشخصه، بحيث تخلص له السلطة بمفاصلها جميعاً، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتسبغ عليه صفات «المفرد» و «الأوحد» و «الخالد».

بديهي والحال هذه أن تغادر الجماهير الشارع، وأن تفقد قدرتها على التأثير، وهي بلا قيادة وبلا برنامج وبلا إطار جامع وبلا قدرة على الفعل، وفروع الاستخبارات المختلفة تتابع حركتها وتحصي عليها أنفاسها، فتعين للأحزاب ـ التي غدت هياكل مفرغة من القدرة على الحركة ـ قياداتها، وتكتب لها برامجها لتكون منضبطة في التزامها بوحدانية «القائد البطل».

«قائد» أقوى ما في «دولته» أجهزة الاستخبارات، وشعارات حزبية مشعة ترفرف في الفراغ، لأن أعضاء الحزب يُمتحنون في ولائهم للنظام الذي يصير قائداً فرداً، لا شريك له ولا نائب. الشعب في الحزب والحزب هو السلطة، لكن القيادة، فعلياً، للقائد الفرد.

والفراغ يستدعي «داعش» وما يماثلها من تنظيمات التعصب المسلح الوافدة من المقولات الأكثر تخلفاً في «الدعوة» إلى إسلام سياسي مجافٍ لروح العصر وللكرامة الإنسانية، وافد من جاهلية مندثرة ترفع شعار «الخلافة» وتستخدم وسائط التواصل الاجتماعي لبث الرعب في الداخل والخارج، تنهب مقدرات البلاد وتفتح الباب لمساومات مكشوفة مع دول الجوار، متجاوزة حالة العداء المعلن (كما مع إسرائيل) أو المستتر (كما مع تركيا).

ولقد استدعى هذا الفراغ، قبل مئة عام أو يزيد، الاستعمار الغربي. ثم أفاد منه الاستعمار الغربي للتمكين للمشروع الإسرائيلي في قلب هذا الوطن العربي، وها هو الآن ـ وبعدما دمّرت أنظمة الدكتاتورية الأمة بقمعها وتخلفها الفكري وغربتها عن العصر ـ يستدعي «داعش».

إن مراجعة سريعة للاتهامات الموجهة إلى أنظمة القمع التي حكمت دول المشرق العربية طوال نصف القرن الأخير، تزيل الاستغراب من أن يتمكن «داعش» من احتلال صحراء الفراغ في مركز القرار، قبل أن يقتحم الأرض بمن وما عليها.

كذلك، فإن مثل هذه المراجعة تكشف الانهيارات الأسرع من الصوت التي توالت على «الجبهات» التي اقتحمها «داعش» بغير قتال في معظم الحالات.

لقد استدعى الفراغ من يفترض في ذاته القدرة على ملئه. فقد سقط مركز القرار قبل أن تسقط المناطق التي اجتاحها «داعش» وظل يتقدم فيها مستدعياً ـ بالشراكة مع النظام المتهالك ـ التدخل الأجنبي الذي كان ينتظر مثل هذه اللحظة ليتقاسم مع «داعش» تركة الأنظمة التي دمرت الدول التي حكمتها فأعجزتها عن المقاومة.

إن العجز عن مواجهة «داعش» قد تسبب في أن يحمل العرب خصوصاً والمسلمون عموماً بعضاً من المسؤولية عن المذبحة التي نظمها بعض الإرهابيين ضد مجلة «شارلي إيبدو»، والتي ذهب ضحيتها بعض المميزين من رسامي الكاريكاتور الذين تلاقوا فيها.

وهذا العجز هو الذي مكّن سفاحاً مثل بنيامين نتنياهو من تصدر التظاهرة المليونية لاستنكار الجريمة التي دفع وسيدفع العرب ثمنها من دمائهم ومن كرامتهم الإنسانية، فضلاً عن حقهم في الانتماء إلى العصر.

على أن هذا العجز لا يبرر للسلطات الفرنسية أن تقبل وجود السفاح الإسرائيلي في الصف الأول للمتظاهرين استنكاراً للجريمة، غير بعيد عن ضحيته الأبرز، ممثل فلسطين. ولا يبرر لهذه السلطات أن تسلم جثث المواطنين الفرنسيين الأربعة، برغم كونهم يهوداً، إلى سلطات الاحتلال الإسرائيلي لكي يُدفنوا في أرض فلسطين المحتلة، متجاوزة ما يشكله هذا التصرف من إقرار للسفاح بادِّعائه أن «إسرائيل هي دولة يهود العالم».

إن هذه الجريمة تكشف، في جملة ما تكشفه، واقع الشراكة الفعلية القائمة بين العدو الإسرائيلي و «داعش»، وهي نموذج للشراكة بين الفاعل والمستفيد.

والاثنان نموذج كامل للتعصب رافع الشعار الديني ستاراً ووسيلة للتحكم وفرض سلطته المطلقة.

الفارق أن الإسرائيلي قوي على العالم كله، بدعم من الحركة الصهيونية ذات النفوذ الدولي الكامل نتيجة سيطرتها على «لعبة المال» في الكون، والثاني قويّ بحكم الضعف المستشري في أوصال الدول العربية التي ليست دولاً قادرة على مواجهة متطلبات العصر. ففقيرها مرتهَن للأغنى، وغنيّها مرتهَن للأقوى، وإسرائيل تجمع بين الأغنى والأقوى، وإن تمثل سلاحها الأعظم فتكاً في الضعف العربي الذي يكاد يذهب بأهله.

تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية