تُذكِّر الأجواء السياسية السائدة اليوم بالمفوض السامي الفرنسي هنري بونسو، فيترحم بعض سياسيينا والكتل عليه، لأنهم «قلّدوا» ما كان قد أقدم عليه عندما احتدمت معركة انتخاب رئيس الجمهورية بين مرشح «الكتلة الدستورية» بشارة الخوري ومرشح «الكتلة الوطنية» أميل إده.
يومها تبيّن للمفوض الفرنسي ان الخوري سيفوز بأكثرية ضئيلة من الأصوات، فمارس سياسة الترغيب والترهيب لاستمالة هذا البعض، ولما أُحبط مسعاه وترشح الشيخ محمد الجسر أيضاً للرئاسة، تخوف من ان يعمد الدستوريون والكتلويون لتأييد الشيخ كي يضمنوا فوز المرشح المنافس، فلم يتوان عن تعليق العمل بالدستور وحل مجلس النواب لتبقى سدة الرئاسة خالية لما بعد الانتخابات النيابية الجديدة.
واليوم يعيد التاريخ نفسه مع مراعاة مقتضيات الحداثة والتجديد، فمجلس النواب معطل احتراماً لموقع رئاسة الجمهورية الذي لا سبيل لتعطيله إلا بتعطيل نصاب الجلسات، وهكذا الحكومة ورئاسة الجمهورية التي يؤمِّن خلوها استمرار تعطيل المجلس والحكومة معاً…
وما يلفت في التحديث لقرار المفوض السامي المتبع اليوم اعتماده على فتاوى واجتهادات يندى لبعضها الجبين وسياسة «قتل الرجل والسير في جنازته». وكل ذلك ينتهي بجمله واحدة هي «ضرورة الحرص على تطبيق الدستور!»، ومن الأمثلة على ذلك ما جرى ويجري لجهة التعامل مع قانون الانتخاب. فبعد التمديد الأخير للمجلس في 11 تشرين الثاني 2014 أجرى رئيس المجلس نبيه بري اتصالات مع الكتل النيابية لانتداب من يمثلها في لجنة اسمها «لجنة التواصل النيابية المكلفة درس اقتراحات القوانين المتعلقة بالانتخابات النيابية». وتشكلت اللجنة بعد أيام من 12 نائباً يمثلون جميع الكتل والأحزاب المتمثلة في المجلس وكذلك الطوائف والمذاهب، سبعة مسيحيين وخمسة مسلمين.
ولكن اللجنة التي بدأت مهمتها، فوجئت بعد اجتماعات عديدة توافقت خلالها على مواد كثيرة ومنها ما هو أساسي، بإعلان النائب جورج عدوان ممثل حزب «القوات اللبنانية» تعليق مشاركته في اللجنة، ليلحق به بعض الآخرين إما بإشهار التعليق وإما بالمماطلة والتغيب، وهؤلاء جميعاً من الذين يشترطون وضع اقتراح قانون الانتخاب على جدول أعمال أول جلسة تشريعية يمكن أن تعقد ليشاركوا فيها.
وإذا كانت أهمية قانون الانتخاب أساسية ولا يجادل بأهميتها أحد، فهل يمكن لمثل اقتراح قانون جديد ان يصادر صلاحيات مجلس النواب التشريعية؟ وهل يمكن ان يكون الموقف قبل أقل من سنة تجاه هذا القانون يحتمل «تعليق الدرس» واليوم يصبح ليس مهماً فقط بل يقتضي ان يكون سبيلاً للإفراج عن ممارسة السلطة التشريعية صلاحياتها؟
ولعل الأبرز في «تسييل» قرار المندوب الفرنسي اليوم ذريعة «الميثاقية». فالنسخة الجديدة من هذه «الميثاقية» المسيلة تشبه «الجوكر» في ورق اللعب، يركب مع كل الأوراق وتركب عليه الأوراق كلها، ودائماً «بحكم النصوص الدستورية» التي لا يظهر كنزها إلا على «الأولياء المتقين»، وبحكم هذه المواصفات الجديدة لميثاقيتنا تبقى المشاركة في تعطيل نصاب جلسات مجلس النواب قائمة، وهذا ما له حديث آخر.
روح هنري بونسو ما تزال ترفرف على لبنان آخذة مداها، غير آبهة بروائح نفاياتنا وجيوش الذباب، فما على اللبنانيين إلا أن يعدّوا الأيام لتصبح بعدد أيام السنتين، وإن غلطوا بالحساب فلينظروا إلى السماء سائلين المساعدة من «المفوض»، وعندها تستعيد السلطة التشريعية والإجرائية صلاحياتها!