الانتخابات البلدية التي جرت في طرابلس كانت مواجهة طبقية بين العامة والوجاهات المحلية من جهة ضد البورجوازية العليا من جهة أخرى. هذه المواجهة كانت في كل الانتخابات البلدية الأخرى في كل لبنان، لكن طرابلس دفعت الأمر إلى حده الأقصى لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية. وما حدث من إقصاء للعلويين والمسيحيين كان من جملة الآثار الجانبية غير المقصودة.
في السياسة، لم تُقصِ المدينة أحداً، بل كانت هي المقصاة عن السياسة، عن الحوار والنقاش حول القضايا التي تهم البلد؛ وكانت الفئات الشعبية مقصاة عن التداولات لاختيار ممثلي الشعب للمجلس البلدي. لقد أريد للتمثيل أن يكون للطبقة العليا لا للطبقات الدنيا. جرت المداولات بالسر، وكان الناس العاديون مبعدين عن المناقشة والمشاركة. كان المتحدثون باسم البورجوازية يستخفون بعقل العامة وذكائهم. جاء التصويت لمصلحة من تكلم مع الناس مهما كان موضوع الحديث.
اجتماعياً، هي مدينة خرجت منها نخبها. هذه النخب الاقتصادية التي تمتلك مليارات الدولارات بما يوازي 30% من الأموال في لبنان، لكن ما يُستَثمَر في لبنان لا يتعدى الواحد في المئة. الطبقات العليا فيها بضع عائلات يتزاوجون في ما بينهم، على أساس أنهم وحدهم ذوو الدم الأزرق؛ متعالون على الناس متصاغرون أمام كبار البورجوازية. التقارب الجيني بينهم أدى إلى تدني منسوب الذكاء (I.Q.) لديهم. هي طبقة عليا من الأغبياء، ولا يبدو أصحاب الأمر فيها أذكياء إلا بالتسكع أمام سلاطين المال.
أما اقتصادياً فهناك استثمارات تتوفر لها الأموال ولا تتحقق، مشاريع كثيرة يُوعَد بها ولا تنفذ، ناهيك عن مشاريع أخرى تفتتح ثم توضع موضع النسيان. المدينة منكوبة فعلاً، لم يكن بعضها يقاتل بعضها الآخر إلا بإرادة خارجية وتمويل خارجي. عندما أُخذ القرار بالتحول إلى الهدوء سكت السلاح بكل بساطة. أريد للمدينة أن يتوقف الاقتصاد فيها لبضع سنين كي يحدث ما حدث، فكان القتال الذي هدأ عندما تغير القرار، فإذا الهدوء كامل ناجز.
قيل الكثير عن الاعتدال والوسطية بين الزعماء الكبار، من خارج المدينة وداخلها، بعكس عامة الناس الذين قيل إنهم ينتشر بينهم الفكر «التكفيري»، «الجهادي»، «البيئة الحاضنة»، إلخ… يبدو أننا نستطيع وصم أهل الاعتدال والوسطية بالصفات التكفيرية الجهادية، ويكون الأمر الأصدق. الناس أكثر اعتدالاً ووسطية من القادة الكبار. ما استجاب الناس للقادة في جولات القتال إلا من أجل لقمة العيش، لقاء حفنة من الدولارات. وعندما نضبت الدولارات هدأت المدينة.
سوف تأتي الانتخابات النيابية. يجد الناس أنفسهم أمام النظام. يضطرون لانتخاب نواب صم بكم لا يفقهون. مختارون لا لشيء إلا لأنهم يمثلون النظام. النظام أقوى من المجالس المحلية. يأتي معلباً بكل مستلزمات العيش المشترك والميثاقية ومواضيع أخرى لا تخضع للنقاش. الأرجح أن أحداً من الأحزاب ما قرأ البرنامج السياسي لحزبه.
ما زال نظامنا مستورداً أو شبه مستورد؛ تتحكم به المخابرات الدولية والإقليمية… نتحدث عن العيش المشترك والميثاق وكأننا مندوبون لأجهزة أجنبية لا فرق بين سياسيينا ومندوبي شركات توزيع الأغذية. نظن أن انتخاب رئيس أو مجلس نيابي يعتمد على ميزان القوى في المنطقة وتحولاتها. لا نفقه أن كلمة سفير أو مجموعة سفراء، في حال اتفقوا، كافية لحل المسائل المستعصية. لسنا دون معرفة الحل تقنياً، بل هو الانصياع لإرادات خارجية يجعل القرار على أهل السياسة عندنا مستعصياً. وما أهل السياسة عندنا إلا عبيد للخارج.
فليطمئن أهل الحل والعقد أنفسهم: ما تغير مسلمو طرابلس عن وضع اعتادوا عليه منذ عقود، والنظام السياسي اللبناني ليس في خطر؛ لا العيش المشترك ولا الميثاقية. الذي في دائرة الخطر هو الطبقة السياسية في لبنان. تساوي هذه الطبقة السياسية بين وجودها ووجود لبنان. آن الأوان لكي تكون عندنا الجرأة للقول لهذه الطبقة السياسية إن بقاء لبنان مرهون برحيلها.
ما اجتمعت واتحدت الطبقة السياسية قدر ما فعلت في هذه الانتخابات البلدية. ما ذلك إلا لخوفها من الناس؛ خاصة في الانتخابات النيابية المقبلة. حينها يُقَرَّر اتجاه النظام.
أخيراً، هي مدينة عربية متوسطية. عربية ما زال تعرف معنى ثورة 2011؛ متوسطية ذات رؤوس متعددة. المدينة المتوسطة مثل الهيدرا رؤوسها متعددة، ما إن يُقطَع رأس حتى تظهر رؤوس أخرى.