لا الحزن على ضحايا جريمة المرفأ ولا الفرح بعودة الثورة إلى زخمها الأول كانا كافيين لتفادي حصول الاشتباك المؤسف بين الشيوعي والقوات في شارع الجميزات. سأترك لكل منهما أن يروي الحكاية على طريقته أو على ذمة المشتبكين، مستنكراً ومندداً، متضامناً مع الجرحى والدعاء لمازن أبو زيد بالشفاء، ومحملاً الحزبين مسؤولية توجيه المحازبين وتحريضهم على نفض الغبار عن عدة الحرب الأهلية وشعاراتها. فأنا أميل إلى الظن بأن المسألة لم تكن “رمانة” بين أيدي شيوعيين مارين أمام مقر القوات، بل هي ناجمة عن “قلوب مليانة” بقراءات مغلوطة ودروس بالمقلوب عن الحرب الأهلية.
أن نستخلص درساً غير مغلوط يعني أن “نقوم بعملية نقد ذاتي تكفيراً عن الإثم الذي ارتكبناه بحق شعبنا”. هذا ما كتبته على صفحتي في مثل هذا اليوم من العام 2011. إما أن نقلب صفحة الحرب من غير رجعة إما أن نبقيها مفتوحة. لا ثالث بينهما. وإن قلبناها فإن علينا أن نقلب معها كل أدواتها وعدتها وأشكال تعبيرها الإيديولوجية والسياسية والعسكرية، وأن نستخلص من شرورها وآلامها العبر وأن نقرأها بعين نقدية.
جورج حاوي كان سبّاقاً في قلبها فزار غدراس في أول يوم بعد الطائف. غير أن من ادعوا وراثته أو سطوا على إرثه عادوا ففتحوها تلبية لرغبة جبهة الممانعة التي ظلت ترى بعين الحقد إلى أطراف الصراع في المنطقة الشرقية من بيروت. بسبب هذا التردد بين فتحها وطيها، ولأسباب أخرى أيضاً، تشقق الحزب الشيوعي وتذرر و”تشظى”، بحسب تعبير محمد رعد نائب حزب الله. وفي المرة الأولى التي حاول فيها أن يستعيد توازنه السياسي في انتخابات نقابة المهندسين، سقط عليه الغضب من “المنطقة الشرقية” ممن ظلت ذاكرة الحرب عندهم أهم من مستقبل الثورة وأقوى.
تعقيباً على حادثة الأمس بين الحزبين، دعا أحد عقلاء الحزب الشيوعي على صفحته إلى “تنظيم التناقض أو الإختلاف أو الخلاف أو الصراع مع كل القوى و كل الأحزاب بما فيهم حزب القوات تحت سقف الدولة والقوانين المرعية الإجراء، واستناداً إلى الموقف من الثوابت الوطنية ومن الدولة الوطنية العادلة و شروط قيامها”. ثم يضيف في الصفحة ذاتها، “إن حزب القوات يؤكد أنه جزء لا يتجزأ من المنظومة الحاكمة دون استثناء، حزب الله والتيار العوني والحريري والحركة والحزب الجنبلاطي. وأن ميليشيا حزب القوات هو أحد مكونات سلطة الإجرام والفساد الحاكمة، كانت وظيفته في4 آب قمع المتظاهرين، ولهذا السبب معركتنا (اشتباك الجميزة) معهم”.
أترك للقضاء تحديد الطرف الذي هاجم أو اعتدى أو نصب كميناً، لأسارع إلى القول إن اللغم الجاهز للانفجار في الجميزة أو في الصحف أو في النفوس كامن في النصوص المحفوظة في الذاكرة. يخرج الحزب الشيوعي من الحرب حين يطالب بتنظيم الخلافات تحت سقف الدولة، لكنه يعود إليها، من غير قصد، حين يستند إلى “الثوابت الوطنية”. غير أن لكل طرف ثوابته الوطنية. للشيوعي ثوابت موصولة بالممانعة وأطرافها وبالصراع مع الصهيونية والإمبريالية والاستعمار، وللقوات ثوابت موصولة بالصراع مع الممانعة.
الشهيدة الحية مي شدياق الوزيرة النظيفة ككل وزراء القوات اللبنانية، امتعضت من انخراط الحزب في معركة المهندسين، وحملته مسؤولية الهزيمة النقابية، فراحت تهوّل بالخطر الشيوعي، لتلاقي مقالة الصديق الوزير سجعان قزي، أحد كبار مستشاري غبطة البطرك، الذي نبه بدوره إلى خطر عودة الشيوعية من باب الهجوم على القطاع المصرفي، من غير أن يدقق معاليه بمصدر الخطر لا على القطاع المصرفي وحده بل على كل مقومات الوطن، وأولها الوحدة الوطنية.
“تحت سقف الدولة والقانون” شعار أربك الحزبين. الشيوعي ينادي بالعلمانية فيما هو يصادق طائفة ويعادي أخرى. والقوات يحارب الطائفية من داخل حصنه الطائفي. لذلك هما مع الثورة وضدها. تشهد للشيوعي وللجريح مازن أبو زيد ساحة دوار كفررمان، وللقوات شوارع وساحات المنطقة الشرقية. لكنهما للأسف يعملان لأجندات حزبية لا من أجل إعادة بناء الوطن والدولة، وإلا كان على الشيوعيين تفادي المرور في الشوارع الضيقة تفادياً للاحتكاك، وعلى حزب القوات الرد على الاستفزاز الكلامي بالاحتكام إلى القانون.
مشروع الدولة ليس كلمة تقال أو شعاراً يرفع. إنه فعل انتماء حقيقي لوطن واحد ودولة ذات سيادة على حدودها وداخل حدودها، تحت سقف قوانينها تنتظم الخلافات بين خصوم السياسة، بدل أن يرمي كل منهم في وجه الآخر تهمة العمالة للصهيونية أو للمطامع الفارسية.