IMLebanon

“الشرطة المجتمعية”: تجربة راقية لم نعهدها في أي مخفر

 

إنطلقت من مخفر حبيش بدعم بريطاني

 

 

“الشرطة المجتمعية” عبارة لم يسمعها ربما الكثير من المواطنين ولم تثر اهتمامهم على الرغم من تأثيرها المباشر على يومياتهم، أو ربما لم يثقوا بها وظنوا انها واحدة من الوعود الكثيرة التي تنطلق بزخم لتنفّس في وسط الطريق، لكن في جولة استطلاعية على مركز السرية الأولى لقوى الأمن الداخلي في منطقة الرملة البيضاء التابعة لوحدة شرطة بيروت لمسنا على الأرض ومن خلال المشاهدة والشرح المعنى المتطور لمفهوم الشرطة المجتمعية والخطوة الجبارة الى الأمام التي أطلقتها قوى الأمن الداخلي إنطلاقاً من بيروت على أمل تعميمها على كافة المناطق اللبنانية.

 

هنا الوطن كما نحلم به، متطور، شفاف، صادق يحترم حقوق إنسانه ويحفظ أمن مواطنيه، يخطط لغده ويسير بخطوات مدروسة واثقة نحوه متخطياً الجدل السياسي العقيم والدوران اللاهث في حلقة مفرغة. هو وطن يشبه الحقيقة الزاهية التي تجهد قوى الأمن الداخلي في تعزيزها وتأكيد أسسها رغم كل الشكوك والعواصف والتحديات. حقيقة يغفل عنها الكثيرون عن قصد او قلة معرفة لكن الجهل والتجاهل لا يمحوان الصورة المشرقة الرائدة التي تقدمها قوى الأمن اليوم من خلال مفهوم الشرطة المجتمعية الذي اعتمدته مؤخراً.

 

شرطة حضارية

 

تحترم الإنسانالشرطة المجتمعية مفهوم يجمع كما يدل اسمه على التعاون الوثيق بين الشرطة من جهة والمجتمع بكل مواطنيه من جهة أخرى. ويلخص العقيد مسلم هذا المفهوم بجملتين: “الشرطة في خدمة المجتمع” و”كل مواطن خفير” أي ان التعاون والشراكة يسيران في اتجاهين فلا يبقى أحدهما غريباً عن الآخر منعزلاً عنه بل تجتمع جهودهما لخلق جسور تصب في خدمة المجتمع. رجال الشرطة يتدربون ويخضعون للتأهيل عبر دورات مستمرة تعدهم للاستماع الى المواطنين والتعامل معهم بطريقة أخلاقية حضارية تطمئنهم وتساعد في حل مشاكلهم بأكفأ وأسرع طريقة ممكنة لتولد عندهم ثقة بقوى الأمن الداخلي، والمواطن من جهته يستبق المشاكل الأمنية فيتعاون ويعرض ويبلّغ عن اي شائبة أو جرم أو إمكانية جرم يراها من حوله حتى تكون مؤسسة قوى الأمن جاهزة للتدخل حتى قبل وقوع الجريمة.

 

مشروع الشرطة المجتمعية وفق ما يخبرنا به رئيس شعبة العلاقات العامة في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي العقيد جوزيف مسلم انطلق من فصيلة راس بيروت أو ما يعرف شعبياً بمخفر حبيش حيث ساعدت تجربة العمل النموذجي فيه على إعطاء صورة جديدة مختلفة كلياً لهذه الفصيلة. ونجاح التجربة أدى الى السعي لتوسيع دائرتها لتشمل السرية الأولى بكل فصائلها. واثمر السعي بدعم وتمويل من فريق الدعم البريطاني الى تحويل السرية الأولى بكل فصائلها أي الرملة البيضا، مينا الحصن، راس بيروت والروشة الى سرية نموذجية في مبنى حديث تم افتتاحه في7 كانون الأول عام 2018.

 

هذا المبنى العصري المؤلف من ثمانية طوابق والواقع خلف وزارة التربية لا يشبه ما نعرفه عن مراكز قوى الأمن بل هو أقرب الى منشأة عصرية مجهزة بأفضل التقنيات وأحدثها ومعدة لترحب بزوّارها، مواطنين كانوا او موقوفين ولتكون البيت الثاني الذي تحلو فيه الإقامة لعناصر قوى الأمن اثناء تواجدهم في الخدمة.

 

هنا لا يمكن للمواطن أن يشعر أنه تائه كما في المخافر التي اعتاد دخولها، لا يعرف أين يتجه والى اي شرطي يشكو أمره، فعند المدخل ركن مخصص للاستعلامات، يبادر فيه الشرطي المختص الى تسجيل المعلومات المطلوبة من صاحب الشكوى وأخذ المستندات الضرورية ليبادر بعدها الى توجيهه نحو القسم المختص بشكواه فيما يطلب منه الانتظار في الصالة المجهزة التي تحاكي صالات عيادات الأطباء بنظافتها وترتيبها. في الصالة لا يصادف المواطن المنتظر أفراد الدوريات وهم يدخلون أو يخرجون لتأدية مهامهم كما لا يصادف موقوفين قد يحرج لمشاهدتهم او يحرجون لوجوده بل ثمة مدخل آخر يتيح لعناصر الشرطة الخروج الى مهامهم بدون التواجد على تماس مباشر مع المواطنين المنتظرين.

 

من المبنى بأكمله تفوح رائحة النظافة والنظام، وعلى الرغم من هيبة قوى الأمن لا يشعر المواطن المتواجد فيه بارتباك او خشية او حتى إحراج على غرار ما قد يشعر به في زياراته القسرية الى بعض المخافر. إنها الشرطة المجتمعية بأرقى صورها.

 

نجول في المبنى مع العقيد جوني داغر قائد السرية، ننزل اولاً الى الطابق السفلي فنفاجأ بما نراه من إمدادات للماء والكهرباء وغيرها ونتمنى لو كنا نسكن هنا لنحظى بمياه للشرب و”القضي” مفلترة ومعقمة بأحدث الطرق أزيلت منها الملوحة وتحولت الى مياه يتمنى كل لبناني الحصول على مثيل لها، تتشارك في استعمالها العناصر الأمنية والموقوفون ومعها نظام متطور لمكافحة الحريق. التجهيزات حديثة عصرية تلبي كل متطلبات الأمان والأبرز أن صيانتها مؤمنة على خلاف ما نعهده في إدارات الدولة التي غالباً ما تبدأ ممتازة لتنتهي بعد فترة في حالة يرثى لها.

 

التجهيزات العملية في طوابق المبنى المختلفة تضاهي اي مركز شرطة في العالم المتحضر حتى أننا نكاد لا نصدق ما تراه أعيننا. التفاصيل كلها مدروسة تحفظ كرامة الموقوف وهيبة الأمن، هنا غرفة للاسعافات الأولية تؤمن للموقوف عناية فورية في حال كان يعاني من جروح طفيفة او مشكلة صحية، أو فيها تتابع شابة من قوى الأمن حالات النساء المعنّفات اللواتي يلجأن الى الشرطة. للموقوفين مقاعد خاصة مزودة بقضيب حديدي تثبت فيه اليد بطريقة لا تزعجهم، وحتى للمدمن كرسي خاص للتثبيت بحيث لا يؤذي نفسه وللأحداث غرف مزينة بالرسوم ومزودة بنافذة صغيرة وبإضاءة تختلف بين الليل والنهار حتى تنتظم ساعة الموقوف البيولوجية ويعرف ليله من نهاره… حتى الملف الصحي لكل موقوف يتم ملؤه والاستعلام عن وضعه الصحي وأدويته وما يعاني منه من حساسيات ايضاً…

 

في طابق النظارات يختلف المشهد عما يرتسم في بالنا من صور لمخافر الشرطة ونظاراتها وموقوفيها. فكل نظارة في هذا الطابق مزودة بمكان للنوم يليق بإنسان مع حمام خاص يمكن التحكم بمياهه وإضاءته من الخارج، حتى التكييف مؤمن للموقوفين! وتنقسم النظارات الى قسم للرجال وآخر للنساء وللقاصرين ومعها غرفة تمريض للموقوفين… هو الحلم الذي نفرك عينينا جيداً حتى نتأكد من كونه حقيقة وبأننا في مركز لقوى الأمن في لبنان هذا البلد الذي يئن ويصرخ يكاد يهوي.

 

في إحدى غرف التحقيق يلفت نظرنا كمبيوتر بشاشتين هو معد لتسجيل اقوال الموقوف إلكترونياً على إحداهما من قبل المحقق فيما الموقوف يستطيع ان يتابع أقواله المسجلة أمامه على الشاشة الثانية وثمة سعي الى اعتماد هذه الآلية مع إمكانية اتصال الكتروني مباشر بالجهات القضائية المختصة.

 

بناء المكان والإنسان

 

المشاهدات لا تنتهي ولا تنفك تثير دهشتنا يشرحها لنا العقيد بفخر وحماسة. فالسرية ليست مجرد مكان للعمل بالنسبة للعناصر الأمنية ضباطاً وعناصر بل هي شغف يومي يعيشونه وخدمة يفخرون بها. في الطابق الإداري مكننة كاملة وتجهيزات حديثة تؤمن فعالية الخدمة الأمنية على مختلف مستوياتها وتشعباتها، مع غرفة اجتماعات واسعة ترسم فيها المخططات الأمنية وتوضع الاستراتيجيات ومكاتب للضباط وقائد السرية، أفضل ما فيها البعد عن الفخامة المبالغ فيها والبذخ في غير موضعه.

 

أما في الطابق المعد لمنامة العسكريين فالأمر مختلف هنا لا مكاتب او أجهزة كمبيوتر بل مساحة هادئة معزولة عن بقية الأقسام تتيح للعناصر نيل قسط من الراحة بأفضل الظروف. الأسرة، التكييف، المطبخ والخدمات كلها راقية وحديثة حتى أن هناك صالة خاصة لممارسة الألعاب الرياضية وأخرى لمشاهدة التلفزيون وشرفة خارجية تطل على منظر رائع وكأنها مساحة من مكان آخر…

 

إذا كان المبنى بتجهيزاته يلبي مفهوم الشرطة المجتمعية فإن العنصر الإنساني يبقى الاساس. فعناصر الشرطة هم من يحملون عبء التعامل المباشر مع المواطنين وإعطاء أفضل صورة عن قوى الأمن، الصورة التي تبني الثقة وتكسر حاجز الخوف والتهكم الذي طالما حكم العلاقة بينهما.

 

يخضع كل عنصر وفق ما يخبرنا العقيد مسلم الى دورتين واحدة في الاختصاص الذي يخدم به وأخرى في الشرطة المجتمعية، مع التركيز على دورات رديفة مثل دورة دفاع مدني تسمح للعناصر القيام بأعمال الإطفاء وإخلاء المبنى بعناصره وموقوفيه في حال حدوث حريق مثلاً، وحتى دورات صيانة تسمح لهم إجراء التصليحات الضرورية مثل إعادة تشغيل المصعد في حال تعطله، أو دورات مع مدربين على الحياة للتعرف على كيفية التواصل الصحيح مع الموقوفين والمواطنين… ويتم اختيار العناصر بدقة وكودرتهم ليكونوا فعلاً في خدمة المواطن وذلك عبر التدريب والمتابعة والمحاسبة التي تعتبر عاملاً اساسياً في الانضباط والالتزام بمفهوم الشرطة المجتمعية. ويمكن القول بحسب العقيد مسلم أنه قد بدأ حقاً بناء جيل من العسكريين مختلف عن جيل الماضي يلبي حلم المواطنين بشرطة تكون في خدمتهم بصورة راقية إنسانياً وفاعلة أمنياً. وربما من أفضل الأمثلة على ذلك فريق الدراجات الهوائية الذي بات جزءاً من الشرطة ووجهاً حضارياً لها جاهزاً للتدخل بابتسامة لتسهيل أمور المواطنين كباراً و صغاراً و مساعدة السياح القادمين الى لبنان.

 

التنسيق بين الشرطة والمجتمع بمواطنيه وفاعلياته وقواه المدنية مستمر بانتظام فالكثير من الجمعيات غير الحكومية مثلاً كتلك التي تعنى بمكافحة العنف الأسري او حقوق الإنسان والأحداث والموقوفين على تعاون وثيق مع الشرطة وهو ما يوفر ثقة واحتراماً بين الطرفين ويجعل المراقبة والمحاسبة أكثر فعالية والأمن مسؤولية مشتركة. وقد بدأ المواطنون يشعرون بالفرق في الأسلوب الجديد في التعاطي ويتجاوبون معه من خلال تعاونهم وسرعتهم في التبليغ ما يجعل الربح مزدوجاً للمؤسسة الأمنية وللمواطن.

 

تحديات وإنجازات

بعد هذا المشهد المشرق الذي يتجلى في سرية بيروت الإقليمية الأولى لا بد من طرح الهواجس التي تجول في رأس كل مواطن؟ كيف للقوى الأمنية ان تستمر في القيام بواجبها في ظل تحديات مالية وأمنية وسياسية ضاغطة الى أقسى حد؟ وكيف يمكن الاستمرار في مفهوم الشرطة المجتمعية في حين ان المواطنين فقدوا الثقة كلياً بدولتهم وأجهزتها وباتت العلاقة بينهم وبينها تسودها حالة من الكره والقرف؟

 

لا ينكر العقيد مسلم هذا الواقع لكنه يؤكد أنه على الرغم من قساوة التحديات فإن قوى الأمن تقوم بواجباتها على أكمل وجه وهي اليوم خط الدفاع الأخير في وجه الفلتان الأمني الشامل الذي يمكن أن ينتج عن الوضعين الاقتصادي والاجتماعي اللذين يلقيان بثقلهما على المواطن. ويؤكد قائلاً: “نحن الدرع الذي يتلقف المشاكل لتصطدم فينا قبل ان تصطدم بالناس ونسعى لتخفيف وطأة صعوبات هذه المرحلة التي لا شك ستكون عابرة وتنتهي في يوم قريب. لا شك ان وضعنا كمؤسسة متدهور مالياً ونعاني من صعوبات مالية كبيرة لكن في المقابل لا يمكننا التخلي عن مسؤولياتنا. وعلى الرغم من كل ما يقال وازدياد نسبة الجرائم فإن عملنا في مكافحتها والتصدي لها لم يتوقف مطلقاً والدليل على ذلك أن عدد التوقيفات قد ازداد”.

 

لا ضعف ولا تراخٍ

 

نسأل العقيد مسلم لماذا يشعر المواطنون حالياً وكأن ثمة تراخياً أمنياً في مجالات عدة لكنه ينكر هذا الأمر ويقول ان ازدياد الحالات الجرمية ليس نتيجة التراخي الأمني بل نتيجة الظروف الاقتصادية الضاغطة وارتفاع الحالات الجرمية قابله ارتفاع في عدد الموقوفين والعصابات ما يدل على أن قوى الأمن لم تضعف ولم تتراخَ وإن كانت الصورة في الإعلام أحياناً لا تنصفها وتركز على الجرائم بدل التركيز على مكافحتها. وهنا لا بد من طمأنة المواطنين أن من يقوم بالجرائم هم اصحاب السوابق والمدمنون على المخدرات ويجب التأكيد أننا لم نصل الى وقت تأكل الناس فيه بعضها كما قد يشيع البعض فالقوى الأمنية جاهزة للتدخل وردع المجرمين وخير دليل على ذلك أعداد الموقوفين في السجون.

 

فنحن نجحنا مثلاً في ضبط الجرائم الكبيرة والجرائم المنظمة وفي مكافحة الإرهاب والتجسس وعملنا على مكافحة الفساد من داخل المؤسسة لكننا بحاجة الى إلقاء المزيد من الضوء على هذه الإنجازات لطمأنة المواطن بدل عكس الحقائق وإظهار صورة مغلوطة.

 

“نعيش صراعاً بين قلبنا وعقلنا” يقول العقيد مسلم، فمن جهة قلبنا على المواطن الذي لم يعد قادراً مثلاً على دفع غرامات السير لكننا في المقابل لا بد أن نعمل على حمايته من نفسه ومن مخالفات قد تسبب له الأذية.

 

وينهي مسلم حديثه قائلاً: “على الرغم من مشاكلنا نحن مهيأون عبر تدريباتنا وتقدمنا على صعيد التحليل والتحقيق الاحترافي لمواجهة هذه المرحلة بكل صعوباتها وتحدياتها، على أمل ان تتحسن الظروف لتعميم تجربة الشرطة المجتمعية الناجحة على كل الفصائل في كل لبنان لتحسين الخدمات الشرطية وجعل الشرطة الوجه الحضاري للبنان.

 

مخفر حبيش شهادة عمرها 100عام

 

مخفر حبيش الذي ترافق اسمه لعقود طوال مع المخدرات والدعارة والسمعة السيئة هو في الواقع ثكنة سميت على اسم الشهيد المفوض يوسف رشيد واكد حبيش الذي استشهد في أول شهر أيلول من العام1919 وهو من بلدة غزير مواليد العام 1892 ورقي الى رتبة مفوض وخدم في قيادة مخفر راس بيروت. منحته الحكومة اللبنانية وسام الاستحقاق اللبناني تكريماً له وسمي مخفر راس بيروت باسمه” مخفر يوسف حبيش”. أما استشهاده حينها فجاء اثناء عودته من مهمة توقيف مطلوبين بمعية المفوض خليل صعب، حيث تصدى لأشقياء في محلة الصنائع وتبادل وإياهم النيران واصيب برصاص قاتل وقضى شهيداً، بينما تمكن المفوض خليل صعب من توقيف الجناة وسوقهم الى العدالة. وتضم ثكنة حبيش اليوم مكتب مكافحة المخدرات المركزي ومكتب حماية الآداب ومكافحة الاتجار بالبشر ومكتب مكافحة القمار.