علي نون
يمكن النظر الى مشاهد التعذيب في سجن رومية من زوايا عدة. منها واحدة تتصل بحديث «المؤامرة» إياه، حيث الاسئلة عن التوقيت، والمرتكبين و»هويتهم» السياسية(!؟) وتزامن التسريب مع تجدد الحديث التهويلي عن استهداف طرابلس.. وواحدة تتصل بالمعطى الاخلاقي الرافض لتلك الممارسات شكلاً ومضموناً. وواحدة تتصل بالمعطى السياسي الرافض لتغييب القانون والقضاء لصالح صاحب القوة المسلحة حتى لو كان رجل أمن رسمي وشرعي!
ذلك كله واكثر منه، يمكن أن يطلقه الاستفزاز المتأتي عن المشاهد المروّعة المسربة من سجن رومية، لكنه في مجمله، لا يوازي الرعب المتأتي من مرور خاطرة تشبيه ما حصل عندنا بما حصل ويحصل في «دولة» البعث الاسدي!
ودواعي التواضع، تفرض التوضيح بداية: لبنان ليس سويسرا. ولا ما هو أقل منها. واللبنانيون (والتوصيف دقيق!) ليسوا غرباء عن العنف وثقافته وآلياته.. بل اكثر من ذلك: عنفهم الأهلي طبائعي وسابق على حربهم العمومية وانفراط الدولة وأجهزتها وضوابطها. بل هو عنف كان ولا يزال وليد اشياء كثيرة، منها الاستهانة، ان لم يكن احتقار، أي ضوابط «رسمية» تمنعه أو تلجمه عندما يرتئي صاحبه استخدامه. أو تفرض عليه «الضرورات» ذلك الاستخدام، أكان للأخذ بالثأر، أو لتأكيد سطوة، أو تحصيل حق مُدّعى، او مباشرة الاعتداء على الاضعف، أو لتأكيد مقام الكرامة عندما تُمسّ أو تُجرح، أو لألف الف علّة وسبب كامنين وظاهرين في الاجتماع والسياسة سواء بسواء.
ذلك العنف الاهلي يسَّر اندلاع الحرب الأهلية باعتبارها اشتباك خيارات وطنية عامة، وجعلها في بعض مراتبها أليفة مع الطباع الاولى للبنانيين.. لكن ذلك لم يجعل هؤلاء اللبنانيين عموماً (ومجدداً: التوصيف دقيق!) يأنسون بالطغيان ولا بآليات تثبيته، وفي مقدمها العنف الرسمي أو اللابس ثوب المؤسسة الشرعية. بل يمكن الافتراض، ان الرعب من خاطرة التشبّه بما حصل ويحصل في سوريا الاسد هو تحديداً الرعب من تحول «الدولة» الى شيء شارعي!
«الدولة» في ذهن الخارجين من تجربة الحرب الاهلية هي الملاذ الوحيد البديل عن انكسارات تلك الحرب وممارستها وعنفها الضاري. و»الدولة» في لبنان في ذهن المتفرجين على «دولة» الاسد وارتكاباتها في حق السوريين، هي الجدار الأخير والوحيد القائم بيننا وبين صيرورتنا جزءاً من ذلك المشهد النكبوي السوري وغير السوري!
عنف الافراد والجماعات السياسية في لبنان جزء من الطباع العامة وعاديات الأمور! لكن عنف «الدولة»، في الوعي البدائي والمتطور للناس، أمرٌ غير مفهوم: لا يمكن القانون أن يكون عنيفاً! ولا يمكن الشرعية ان تكون شارعية! ولا يمكن حامي الأمن أن يكون منتهكاً له! ولا يمكن الملاذ الآمن أن يكون خطراً ومتفلتاً! ولذلك (ربما) ضجّ الناس بتلك المشاهد برغم انها تبقى «متواضعة» مقارنة بما يحصل من حولنا!
.. في كل الحالات، فان ردود الفعل، المدنية والرسمية، تؤكد مبدئياً، ان «دولة» بشار الاسد التي تنتهي في سوريا ليس لها صنو في لبنان! وذلك أمر يسرّ الخاطر وإن كان لا يلغي الاسى الآتي من سجن رومية!