Site icon IMLebanon

مقارنات بين مؤتمري فرساي 1919 وفيينا 2015

في الرحلة الطويلة جدا لإعادة “صياغة” الشرق الأوسط وعالمه العربي المفكَّك تحتلُّ صيغةُ لقاءات فيينا 2015 فصاعداً المركز الرئيسي في اختبار وتوجيه وإنضاج معادلات سياسية وأمنية للمنطقة بعد الاتفاق النووي الأميركي الدولي الإيراني. حتى ليكاد يكون مؤتمر فيينا المفتوح بالنسبة لمنطقتنا اليوم ما كانه مؤتمر فرساي لها عام 1919-1920.

هناك فارق إطاري رئيسي بين مؤتمر فرساي ومؤتمر فيينا أن الأول كان يتعلّق بكل أنحاء العالم ولا سيما أوروبا والشرق الأوسط والقوقاز وشرق آسيا بينما مؤتمر فيينا الحالي مخصّص للوضع السوري وبالتالي لعلاقات محيطه أي بالشرق الأوسط تحديداً.

لا بد هنا من بعض المقارنات بين المؤتمرَيْن والتي صنعت معطياتِها مائةُ عام حافلة:

1- في مؤتمر فرساي لم تكن إيران – بالمطلق – جزءا من معادلة المشرق العربي.

كانت روسيا مشغولةً بحربها الأهلية وبالنظام الجديد الذي أسّسه الانقلاب البلشفي غير المتوقّع يومها أن يتمكّن من البقاء في السلطة وكانت تركيا التي نعرف مجرّد مساحة مهزومة ذات عاصمة هي اسطنبول تحت الاحتلال البريطاني الفرنسي.

اليوم في مؤتمر فيينا إيران وتركيا دولتان متماسكتان ولاعبان أساسيان في الأزمة السورية ومديرتان محوريّتان للحرب الأهلية فيها. بينما موسكو وواشنطن هما الراعيتان الدوليتان لعلاقات فيينا وصراعاتها الشرق أوسطية ولو طبعا بمشاركة أكيدة مع البريطانيين والفرنسيين الذين تعوّدوا منذ زمن طويل على أدوار الصف الثاني على الصعيد الدولي.

الصين الضعيفة جدا يومها أيضا كانت “موضوعاً” لتقاسم النفوذ وليست لاعباً نافذاً في فرساي بينما هي اليوم قوة عالمية والقوة الثانية في الاقتصاد العالمي والطرف الهادئ الدولي في الحرب السورية.

كانت مصر تحاول في الداخل ولاحقا في باريس التخفيف بل الخلاص من النفوذ البريطاني برئاسة وفد سُمّي للذهاب إلى فرساي ولكنه سيتحوّل، أي الوفد، عنواناً لثورة دستورية واستقلالية مصرية، ولم تكن هناك بعد دولة تدعى العراق وكانت هناك دولة جديدة تُدعى سوريا هي مملكة برئاسة الأمير الذي أصبح ملكا الشريف فيصل بن حسين ولكنها دولة مهددة وغير معترَف بها خارجياً وستزول لاحقا بعد عام 1920 ليحل مكانها انتداب فرنسي ودويلات عديدة. ولم يكن هناك “لبنان كبير” بل فقط متصرفية جبل لبنان الحائرة نخبتها بين ضمانات الحكم الذاتي الشريفية ومطالب توسيعها إلى دولة أكبر. لم تكن هناك دولة أرمينية ولا دولة كردية. أما مصر فيينا فتأتي إليها في مرحلة راهنة تدافع فيها عن تماسكها الدولتي والاجتماعي ضد قوى أصولية حرب أهلوية.

كانت سلطنة نجد في قلب الصحراء العربية دولة صاعدة بقيادة ابن سعود لا تعرف النفط وحتى لم تسمع عنه. اليوم المملكة العربية السعودية دولة نافذة في المنطقة شغل نفوذها ثلثي القرن العشرين ولا يزال وهي اليوم أمام امتحان الاحتفاظ بنفوذها الإقليمي والشخصية التي ارتسمت على أساسها.

2- مفهوم الصياغة لمعادلات جديدة سواء كما ثبت في فرساي وكما يمكن أن يظهر في فيينا اليوم لا يعني الاتفاقات النهائية بل رسم الإطارات. ولهذا فالصياغة الجديدة تشمل حروبا وصراعات لاحقة. بعد فرساي أدّى ضعف تركيا الشديد إلى معاهدة سيفر الكارثية على الأتراك في الأناضول الذي قسّمته إلى دويلات ومناطق نفوذ. لكن الحرب الشعبية التي أطلقها وقادها ضابط كبير لمع نجمه في المعركة الكبرى الوحيدة التي ربحها الجيش العثماني على الانكليز في الحرب العالمية الأولى هي معركة غاليبولي… هذه الحرب الشعبية بقيادة الجنرال مصطفى كمال ستؤدي إلى ولادة جمهورية تركيا ونسف معاهدة سيفر وولادة معاهدة لوزان وسيصبح اسم هذا الجنرال أتاتورك.

3- اليوم يحاول رجل وحزب بأشكال “دستورية” تغيير ما أمكن من تركيا الأتاتوركية. هذا الرجل هو الرئيس رجب طيِّب أردوغان الذي يقود تركيا في مؤتمر فيينا انطلاقا من خطة حرب مضادة في سوريا تراهن على المساهمة في إعادة صياغتها بنفوذ تركي غاب حوالي مائة عام عن بلاد الشام. وهذا يوصلنا إلى الملاحظة الرابعة.

4- لقد تمخّض الشرق الأوسط الجديد عن ثلاثي قوي غير عربي يحيط بالمنطقة هي إسرائيل وتركيا وإيران فما يميِّز مؤتمر فيينا الذي بدأ مسار إعادة رسم منطقتنا وعبرها الشرق الأوسط الجديد هو وجود ثلاث قوى رئيسية لم تكن مؤثرة في مؤتمر فرساي. صحيح أن إسرائيل ليست عضواً في مسار فيينا ولكنها حاضرة بقوة في توازنات الوضعين السوري والعراقي بأشكال مختلفة.

5- كانت القوى العظمى عام 1919 في بدايات الانتقال من اقتصادات الفحم الحجري إلى اقتصادات النفط مع ما يستلزمه ذلك من تغييرات في الأنماط الصناعية والعسكرية والسياسية لهذا الانتقال كما يشير دانيال يرجين في كتابه الغني عن تاريخ النفط “الجائزة” حين ينسب بالاستناد إلى وثيقة من أرشيف وزارة الخارجية البريطانية رسالة من وزير الحرب البريطاني في أواخر الحرب العالمية الأولى إلى وزير الخارجية آرثر بلفور يقول له فيها أن النفط في الحرب المقبلة سيكون له الأهمية التي للفحم في “هذه الحرب”. الحرب”المقبلة” ظهر أنها ستحدث بعد عشرين عاماً.

السؤال بالتالي هل يكون مؤتمر فيينا هو مؤتمر مرحلة الانتقال من النفط إلى مصادر الطاقة الجديدة ( الغاز الصخري والطاقة الشمسية) كما كان مؤتمر فرساي مؤتمر الانتقال من الفحم إلى النفط مع ما يعنيه ذلك من حسابات جغرافية- سياسية جديدة؟

6- العدو الرسمي المشترك لجميع الموجودين في فيينا هو التيارات التكفيرية. لكن عددا من الأطراف فيها يمارس سياسات مزدوجة من حيث من هو العدو الأول فعلا. على الأرجح سيؤدي تصاعدُ الإرهاب إلى التخفيف من هذه الازدواجية وخصوصا بعد مجازر باريس التي ارتكبَتها “داعش” لاسيما بانتظار الرد الفرنسي على المجازر، الرد المنتظَر أن يكون صاعقا في مكانٍ ما؟

عام 2007 عندما انعقد مؤتمر أنابوليس برعاية الرئيس جورج دبليو بوش لحل الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي قال الراحل الأمير سعود الفيصل وهو يصل إلى واشنطن لترؤّس الوفد السعودي أن “العرب لن يقبلوا إملاءات فرساي جديدة”.

إذا كان الفيصل ينظر إلى فرساي بهذه الطريقة السلبية والمتوجِّسة ، فماذا كان سيقول عن مؤتمر فيينا لو قُدِّر له حضوره؟

… للشرق الأوسط إسم جديد متحوِّل: مسار فيينا.