طلبت حكومة تصريف الأعمال مؤخراً، وبشكل رسمي، استدانة جديدة تبلغ 600 مليون دولار أميركي تقريباً، من المصرف المركزي، كأنّ شيئاً لم يحصل، فيما نشهد متابعة مسلسل التدمير الذاتي وتكرار الأُسطوانة القديمة الجديدة، و«رجعت حليمة إلى عادتها القديمة».
طُويت صفحة رياض سلامة على رأس حاكمية المصرف المركزي، بعد ثلاثة عقود من الأداء. وقد تسلّم فريق عمل جديد إدارة المركزي، برئاسة نائب الحاكم الأول بالإنابة، وبمساعدة نواب الحاكم الآخرين والمجلس المركزي.
وحتى لو تغيّرت إدارة المصرف المركزي، وفي ظل محاولة إنطلاقة رؤية وإستراتيجية جديدة، لكن يا للأسف، لن يتغيّر السياسيون وأداؤهم الكارثي، في ضوء متابعة الإنهيار المالي والنقدي والمالي والإقتصادي والإجتماعي، والتدمير الذاتي الراهن، في ظل السوق السوداء البارزة والنامية.
يأتي طلب الحكومة إعادة الإستدانة من جديد، كأن شيئاً لم يحصل، وكأن البلد على ما يُرام، والدورة الإقتصادية نامية. فكيف يتجرأون على المصرف المركزي، وإهدار ما تبقّى من الإحتياطي، وهو يُمثل ما تبقّى من ودائع المودعين المفجوعين والمنهوبين.
كيف تجرؤ هذه السلطة، التي أهدرت وأفسدت وصرفت وسرقت ما يزيد عن الـ 100 مليار دولار، من ودائع الناس، على أن تعود وتطلب بكل جرأة إستدانة إضافية للهروب إلى الأمام، محاولة تأجيل الإنهيار الكامل، وإهدار ما تبقّى من كسرة خبز، من ودائع الشعب؟
أما المركزي، فلا يريد تسلُّم أي مسؤولية في هذا الخصوص، ويغسل يديه من أي قرار أو أي مسؤولية، ويُطالب بإصدار قانون لتغطية هذه الإستدانة. فمرة أخرى، تُرمى كرة النار من ملعب إلى آخر، ومن منصّة إلى أخرى، وتتكامل اللعبة والضغوطات السياسية، لكن الجمهور والضحيّة هي نفسها، وهو الشعب اللبناني الذي يُذل يوماً بعد يوم، ويُنهب حتى لما بعد العظم.
أُعيدت الأسطوانة نفسها، والمسلسل الغامض في ظل الإدارة الفاسدة ذاتها، والإستراتيجية المدمّرة والمستمرة، حيث الدولة تصرف وتهدر ما لا تملكه، وتتابع تأجيل كل المحطّات المهمّة والهروب من المسؤولية والإدارة الرشيدة والحوكمة والشفافية.
فالكل يريد طمر رأسه في التراب كالنعامة، كأنّ شيئاً لم يكن، بل ويعبر مرور الكرام أمام أكبر عملية نصب وإنهيار وتدمير ذاتي، في تاريخ العالم. فعوضاً عن تقديم أي مشروع لإعادة الهيكلة، وإعادة جدولة الديون القديمة والراهنة، والإعتراف بمسؤوليتها لدفع مستحقاتها، لا تزال الدولة والحكّام يختبئون وراء أصابعهم، ويلجأون إلى الإستدانة، حيث الكلّ يعلم أن الهدف الحقيقي ليس الإستدانة، لأن معنى الإستدانة يعني إعادة الأموال، أما الإستدانة بحسب مفهوم حكّامنا فتعني الإهدار والصرف والفساد، من دون أي نيّة لإعادة قرش واحد، أو بمعنى آخر، لإعادته بقيمة بخسة.
في المحصّلة، حتى لو تغيّرت بعض الرؤوس، وبعض الوعود والشعارات الواهمة، فإن السياسة والسياسيين اللبنانيين لم يتغيّروا، والذاكرة قصيرة، فيما نشهد مرّة أخرى، إستراتيجية مبطّنة لإهدار ما تبقّى من الإحتياطي وودائع الناس، والتمهيد للمسّ قريباً بإحتياطي الذهب بعد وضع الناس أمام خيارين، إما الجوع والنقص في الأدوية، والوقود والفيول، وإما إستعمال ما تبقّى من ودائع الناس والإحتياطي.
إننا نشهد ونعيش متابعة إستراتيجية استنزاف الشعب اللبناني والإقتصاد الوطني، وإستراتيجية التدمير الذاتي، كأنّ شيئاً لم يحصل، فـ «رجعت حليمة إلى عادتها القديمة». لكن هذه المرّة، في ظلّ شعب منهوب وإقتصاد مهترىء ومنفصل عن الناس وتوتُّرات في العمق.