الميت لا يشعر بشيء. الناس من حوله يبكون أو ينهارون، فيما هو في سكون. لكن الغبي ايضاً، لا يشعر بشيء. الناس من حوله يتعبون وينهكون، فيما هو في هبله غريق!
اليوم، يعيش لبنان عوارض الصدمة الجماعية. الناس الذين أصابهم الموت قتلاً أو جوعاً أو إهمالاً أو قهراً، لا يريدون تغيير عاداتهم. يتعب اللبنانيون في تحصيل العلوم لهم ولأبنائهم، لكنهم اكثر من أجاد تعطيل العقل في اللحظات المصيرية. اللبناني الذي يسافر الى العالم البعيد، هرباً من الظلم والقهر، لديه فرص جدية للنجاح كفرد. لكن السؤال المحيّر هو عما يعيده في لحظته اللبنانية الى كل جنونه وأحقاده وتوتره.
الفيلم اللبناني الطويل لا يمكن تقييمه من زاوية علمية. ذات يوم، سأل فنانون مخرجاً إيطالياً رائداً عن رأيه في نجاح مسلسل رديء بكل تفاصليه، من حواره الى تصويره الى ممثليه الى إخراجه، فقال لهم: في هذه الحالة، اقصدوا عالم نفس او عالم اجتماع!
في حالة العبث والجنون المستند الى أحقاد وعقد شخصية، لا مجال لأي نقاش منطقي. في حالة العقلية الثأرية التي تسكن الناس، جماعات قبلية أو حتى أفراداً يشكلون مافيات بألف عنوان، لا يبقى مجال لحوار مثمر.
كيف لعقلك ان يعمل مع أستاذ اقتصاد يسألك بدهشة: ترى متى يعود سعر الدولار الى ما كان عليه؟ او مع طبيب متمرس بالعلم، يسألك عن خبر لم يتعب نفسه في تحديد مصدره؟ كيف لك ان تدخل في حوار مع أستاذ جامعي يمضي نهاره في تدريس خطر الأخبار الزائفة، ثم يطلق موقفاً سياسياً استناداً الى تقدير وضع سياسي فاشل؟ وكيف لك أن تتعامل مع سياسي يخرج من تحت انقاض أفكاره وحزبه، ليعيد صياغة رؤيته الفاشلة ويتلوها على الناس كأنها نص مقدس؟ كيف لك ان تتعامل مع تاجر فاجر، خالف كل القوانين، وبنى ثروة على حساب الحق العام وصحة الناس، ثم يخرج على شاشة شاكياً الفساد وغياب القانون؟
في لبنان اليوم، حفلة من الجنون غير المسبوق. تخرج حثالة، تسمّي نفسها مجموعات مدنية، لتمنح نفسها «الشرعية الشعبية»، وتقرر أن تحول غضب الناس على سلطات وأنظمة وقوانين ومسؤولين يمثلون عصب الفساد، الى فعل أعمى هدفه تدمير فكرة الدولة. ويصبح الشعار: المنظمات الاهلية غير الحكومية هي المؤتمنة على الإنفاق العام في البلاد… هكذا ببساطة، تقرر حفنة من عملاء «الصناديق السوداء» لكل مخابرات العالم، انها هي من يقرر اذا كان هذا اهلاً لمنصب او ذاك مناسباً لدور. وهكذا، يتحول مرابون، ورجال اعمال لا يعرفون غير مخالفة القوانين ومحاباة السلطات النافذة، الى اصحاب محطات تلفزيونية، ويقررون التحكم في ذوق الناس السياسي والثقافي والفني والاجتماعي، وفوق ذلك، يقيمون المحاكم ليرفعوا من شأن فلان أو يطيحون آخر. ولا بأس بختام بثّهم بالنشيد الوطني وخرافات سعيد عقل!
هكذا، من دون أي عقل أو علم، يراد للبلاد أن تكون على شاكلة من دمرها طوال عقود. من عائلات إقطاعية لا تزال تتحكم في نصف أراضي لبنان، وأمراء حرب تحولوا الى زعامات طائفية مقيتة لا يزالون يقاتلون لتجديد النظام المشكلة، وعصابات تضع بالقرب من أسماء أفرادها لقب رجال أو رواد أعمال، تسرق كل ما تراه العيون. الى رؤساء سلطات دينية اخترعها وثبتها الاستعمار، لا يزالون حاملين مفاتيح الجنة ليهددوا بها الفقراء والمساكين، ثم يطلقون تصورات استراتيجية لبناء الدولة والاقليم أيضاً.
لا مجال لمناقشة أي صنف من البشر يعيشون على أخبار المنجّمين، ولا مجال لاستفتائهم في أي أمر جلل
هكذا، يقرر حفنة من المزورين حقيقة تناسبهم. هؤلاء هم الذين لم يتعبوا من الحديث عن «حروب الآخرين» على أرضنا، وهم انفسهم الذين باعوا انفسهم للشيطان ألف مرة، وهم انفسهم الذين يتولون تزوير الوقائع والحقائق منذ توليهم الشأن العام. فعلوا ذلك في حضرة أميركا وفرنسا وإسرائيل والسعودية ومنظمة التحرير الفلسطينية. هؤلاء من حكموا العباد بسيف سوريا ثم قادوا انقلاب عام 2005، ثم ألفوا مسرحيات التحقيق المحلي والدولي في جريمة اغتيال رفيق الحريري… هؤلاء أنفسهم، يريدون تكرار الأمر، ويريدون لنا أن نترك لهم إدارة مسرح السياسة والأمن والقضاء والدستور لتقرير مصير اللبنانيين باسم السيادة أو الحرية أو القانون.
هكذا، يستفيق كل أعضاء هذا النادي، المنتشر كالفطر بين البيوت والأحياء، لإذكاء عصبيات قائمة على فكرة الخوف من الآخر، ودافعة لمزيد من الانعزال والتقوقع الطائفي والمذهبي، ويسعون الى توترات تكلف دماءً ومالاً، لأنهم يُصرّون على البقاء، ولأنهم يعتقدون أن لا داعي لبقاء الهيكل إن كانوا خارجه، ولأنهم لم يجدوا يوماً من يحاسبهم بأن يجرهم خلف حمير تجوب بهم شوارع البلاد. لكن الأنكى، أن غالبية معتبرة من الناس، تلحق بهم، وتردد أكاذيبهم، وترفض التدقيق في ما يقولون. والأخطر، أن جيلاً جديداً يُظهر حماسة للذهاب بعيداً في هذه المغامرة، الى حدود الاستعداد لحرب أهلية جديدة.
ولأن البلاد تعيش على وقع هذا النمط اليوم، ولأن الحياة تعلّمنا أن «من جرّب المجرّب يكون عقله مخرباً» على ما يقول المثل الشعبي، فإن من الافضل عدم المشاركة في حفلة التكاذب القائمة. فلا داعي لأي مجاملة أو مداراة، ولا مجال لكل نفاق عن لبنان الرسالة والعيش المشترك والجسر الذي يربط الشرق بالغرب، ولا مجال لمناقشة أي صنف من البشر يعيشون على أخبار المنجّمين، ولا مجال لاستفتائهم في أي أمر جلل.
لأن البلاد على هذا النحو، ولأن أهل الموت يجدون سوقهم رائجة هذه الايام، ولأن الحقد يسيطر على كل العقول، فما على الناس الا حصد ما يزرعون. وعلى الاغبياء، الذين ارتضوا السير خلف مجموعة من المجرمين والمجانين، أن يتحملوا مسؤولية خياراتهم، وأن يستعدوا لدفع الاثمان الباهظة متى قرروا القفز نحو الهاوية. ففي هذه الحالة، سيكون مجنوناً وبلا عقل، من يسمح لهؤلاء بالتجريب مجدداً. ومهما علا صراخ المحتضرين، فإن من يرغب في فهم موقعنا وموقفنا، ليعرف الآتي:
المقاومة هي قدرنا، بسلاحها، على أنواعه وأحجامه وأماكن انتشاره. وعائلاتنا هي المقاومون على اختلاف أعمارهم ورتبهم وأدوارهم، ومصيرنا مرتبط بمحورنا على مختلف ساحاته وجبهاته، وهدفنا الاول هو تحرير كل فلسطين ولو بشق الأنفس، وكل من يريد التخلص منّا، فما عليه الا الاستعداد للمنازلة تلو المنازلة، الآن وغداً وفي أي وقت!