Site icon IMLebanon

المجمع الارثوذكسي مهدّد بالسقوط…

حدث كبير كان ينتظر العالم الأرثوذكسيّ بخاصّة والعالم المسيحيّ بعامّة وهو انعقاد المجمع الأرثوذكسيّ الكبير والذي يضمّ بطاركة العالم الأرثوذكسيين ما بين 19 و26 من الشهر الجاري في جزيرة كريت اليونانية والتابعة رعائيًّا للبطريركية المسكونيّة. آمال كثيرة عقدت عليه والأبصار شدّت إليه، وهو ينعقد لأوّل مرة كحالة متوثّبة تخصّ الكنيسة الأرثوذكسيّة بقراءتها اللاهوتيّة وفي أبعادها التنظيميّة وقرارتها المجمعيّة، كما في مسارها التكوينيّ ومسيرتها التجديديّة، تتجلّى فيه عناوين أساسيّة هامّة منها انتظارات الشباب وعلاقتهم بالكنيسة وسرّ الزواج وليس على ما يبدو من اتفاق حولها بعد اعتراض الكنيسة الأنطاكيّة على العديد من بنودها ومعاييرها. فجأةً انفجرت علامات متأزّمة مشيرة إلى انهيار واضح لما هو منتظر، مع طلب كنيسة بلغاريا تأجيل انعقاده، وكأنّ المجمع الكبير «كان صرحًا من خيال فهوى» كما في قصيدة إبراهيم ناجي «الأطلال»، لتقول كنيسة انطاكية قولتها وتطلب تأجيل انعقاد المجمع الكبير من ضمن أسباب موجبة تحول دون مشاركة الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكية فيه، منها ما له طابع شركويّ وعضويّ جوهره الكبير الخلاف بين كنيستيّ القدس وأنطاكية وقطع الشركة بينهما، وبعضها تنظيميّ له علاقة بالنظام الداخليّ للمجمع الكبير وهو الرابط في العلاقة بين الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة. والكنيسة الأرثوذكسيّة في تكوينها النظاميّ والانتظاميّ تختلف عن الكنيسة الكاثوليكيّة سواءً المحليّة أو العالميّة، ذلك أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تتجلّى تنظيميًّا بهرميّتها، يسوسها أسقف روما كرأس للهرم بخلاف الكنيسة الأرثوذكسيّة، والكنائس المحليّة في المدى الكاثوليكيّ ليست مستقلّة بالمطلق أو بالفعل، إذ يحقّ لأسقف روما الدخول مباشرة على أيّ رعيّة من رعايا الكنيسة الكاثوليكيّة المحليّة من دون المرور بأسقفها أو بطريركها لأخذ قرار يخصّها، وإذا فعل ولم يدخل بصورة مباشرة فمن باب اللياقة، فيما هذا غير وارد في علاقة البطريرك بالأبرشيات لكون كلّ مطران في أبرشيّته سيّدًا (بالمعنى التنظيميّ) عليها.

التكوين التنظيميّ للكنائس الأرثوذكسيّة مختلف تمامًا، والتدليل عليها بصفتها مستقلّة، فلآن كلّ كنيسة تنظيميًّا تتبع لبطريرك محليّ ينتمي إلى جغرافيتها، فبطريرك أنطاكية أو بطريرك موسكو وكلّ روسيا، بطريركان مستقلاّن تنظيميًّا ولكنّهما واحد في الإيمان والعقيدة ولهما خصوصيّة شركويّة أي يشتركان في القداس الإلهيّ معًا. غير أن لكلّ كنيسة تنظيمها المجمعيّ المختلف عن الأخرى، والمجمع في كلّ كنيسة يجتمع برئاسة البطريرك وينتخب اساقفة على أبرشيات تقع ضمن تلك الجغرافيا.

المجمع الأرثوذكسيّ الكبير يضمّ بطاركة الكنائس المستقلّة بما يمثّلون، وقد تمّ التأسيس له بصورة مكثّفة في مؤتمر عقد في رودس سنة 1961 برئاسة البطريرك أثيناغوراس الأوّل أطلق فيه الأعمال التحضيرية لأعمال المجمع الكبير على قاعدة «الإجماع المقدّس» المولّد للتوازن في العلاقة مع سائر الكنائس ولا سيما في اتخاذ القرارات وتقتضي تلك القاعدة مشاركة الكنائس بلا نأي أو عزل أو فوقيّة أو تنازليّة في وضع النظام الداخليّ للمجمع الكبير وهو النظام الرابط في العلاقة بين الكنائس المستقلّة على مختلف هوياتها، فضلاً عن جدول أعماله. وقد احترم أثيناغوراس الخصوصيّات المغلّفة لموجوديّة الكنائس وبخاصّة ظروفها التاريخيّة وبخاصّة الظرف القمعيّ لذي عاشته كنيسة روسيا خلال الثورة الشيوعيّة وخلال حكم الاتحاد السوفياتيّ. غير أنّ البطريرك المسكونيّ الحاليّ برثلماوس يخيفه الجيوبوليتيك الجديد، مع تمدّد روسيا نحو المشرق الروسيّ من البوابة السوريّة على وجه التحديد، كما في الوقت عينه يحيا في ظلّ التوتّر الكبير بين روسيا وتركيا، وتبرز في هذا الواقع الواضح، إشكالية العلاقة ما بين التاريخ والكنيسة، وببعض الوضوح بين التاريخ واللاهوت، كما بين الكنيسة والسياسة واستطرادًا ايضًا بين اللاهوت والسياسة. ويخطئ من يظن أن الكنيسة غير ملقاة في الدنيا في تأوهات الناس، كما يخطئ من يظن أن المسيح التاريخيّ غير مبثوث في قضايا حساسّة تعيشها الكنائس في تماس واضح بينها وبين التاريخ وبينها وبين السياسة. لكنّ السؤال المطروح كيف نفعّل في هذا المجمع وفي تداخل الصراع الحاليّ في تفاصيله المسيح التاريخيّ بينابيعه اللاهوتيّة الملامسة بحنان فائق لمظلوميّة الإنسان، كيف يكون المسيح التاريخيّ ديناميًّا وليس من سلام بين الكنائس الأرثوذكسيّة وبطريرك القدس يمعن ببيع الأوقاف إلى اليهودي، والمسيح التاريخيّ ولد في بيت لحم وتجوّل في فلسطين حتى تخوم صور وصيدا ومات أخيرا في القدس؟ كيف يكون المسيح تاريخيا ومواضيع مسيحيي سوريا ولبنان بل المسيحيين العرب غائبة بقوّة عن المجمع الكبير وقد حضرت في قمة هافانا العظيمة بين البابا فرنسيس والبطريرك كيريل؟

وفي العودة إلى السياق التنظيميّ، ثمّة بون ما بين قاعدة الإجماع المقدّس، والقاعدة المناقضة لها وهي قاعدة التوافق وترتكز بالتالي على من حضر من الكنائس إلى المجمع. الخطورة التي يقرؤها العلماء أنّ قاعدة التوافق إذا تمّ تثبيتها في القرارات تصبح ملزمة، فيما منسوب الاعتراض بإمكانه الارتفاع تدريجيًّا، وبحال رفضت من الكنائس غير الحاضرة فإنّ الأمر قد يؤول إلى انشقاقات تلو الأخرى. لماذا يحاول البطريرك المسكونيّ التمسّك بها؟ سؤال تطرحه الكنيسة الأنطاكية بعقلانيّة واضحة في معنى اعتراضها على جدول أعمال المجمع، الاعتراض بحدّ ذاته منهجيّ، بسبب أنّ الممارسة الباباويّة المشكوّ منها من الكنائس الأرثوذكسيّة قد تغلغلت إلى عمق الكنيسة الأرثوذكسيّة بالممارسة وليس باللاهوت والتنظيم، حتى الكنيسة الأنطاكية في بعض سلوكياتها لا تخلو منها. وتقول أوساط كنسيّة بأنّ نجاح المجمع مرتكز على قاعدة الإجماع ضمن مشاركة الجميع في جدول أعماله، وليس على قاعدة التوافق ضمن إصرار قسطنطينيّ.

الطامة الأساسيّة أنّ العناوين الخلافية تحتشد وتحتدم في اللحظات الجلّى. والعناوين كخلاصة واضحة وإن اكتست لبوسًا تنظيميًّا، لكنّه بجوهرها متداخل بما هو سياسيّ واستراتيجيّ ضمن أنظومة الخلاف بين الدول. وممّا لا شكّ فيه انّ الخلاف بين كنيستي القسطنطينيّة وروسيا، ليس عقائديًّا او لاهوتيًّا، بل متداخل في آفاق ما هو سياسيّ وإن انخفض منسوب التوتّر الخاص بأوكرانيا بين البطريركيتين، لكنّه علا في اتجاه من هو المتقدّم. ويعلو الخلاف استنادًا إلى الحراك الروسيّ بقوّة في سوريا، فتداخلت في مندرجاته موازين القوى في الإمساك بالمسار السياسيّ بمستقبل المنطقة، ويخطئ من يظن أنّها تخلو من هذا الانتماء الحقيقيّ. ويتجلّى عنوانان بارزان في تلك المندرجات الصراع بين الأميركيين والروس من جهة، ومن جهة أخرى الصراع بين تركيا وروسيا. وفي الوقت عينه أنّ مسالة الخلاف بين بطريركيّة أنطاكية وبطريركية القدس حول مسألة قطر ليست بحت رعائيّة بل هي سياسيّة، وفي بعض المعلومات إن بطريرك القدس ثيوفيلوس وهو المتهم ببيع الأوقاف الأرثوذكسيّة إلى اليهود نسّق مع الإسرائيليين والقطريين وقام بالاعتداء على رعيّة تقع ضمن أبرشيّة أنطاكية، فرقّى كاهنًا يعمل ضمن أبرشيّة بغداد والكويت وهي أبرشيّة انطاكيّة إلى رتبة الأسقفيّة وأتبع قطر إلى أبرشيّته من دون أيّ مسوّغ قانونيّ يتيح له بذلك، وبعد زيارة قام بها بطريرك أنطاكية يوحنا العاشر إلى نظيره بطريرك القسطنطينيّة برثلماوس تشكّلت لجنة من الكنيسة الأنطاكية برئاسة المطران سابا إسبر راعي حوران فيما كان ثمّة وفد مسكونيّ للتفاوض مع الكنيسة المقدسيّة، اتجه الجميع إلى وزارة الخارجية اليونانية المستضيفة لهذا الحوار، وبعد تفاوض برعاية يونانية وقّع الجميع على وثيقة حلّ وافق عليها ثيوفيلوس بطريرك القدس ثمّ ما لبس بعد حين ان انقلب عليها، لماذا انقلب عليها؟ تجيب بعض الأوساط بأنّ قمة مراسلات خطيّة بينه وبين بطريرك انطاكية يشير فيها إلى أنّ لن يكتفي بقطر بل هو متجه إلى التمدّد أكثر فأكثر من الأردن وربما نحو العراق. وبعد تحليل يسير يتضح أن بطريرك القدس يتصرّف بوحي إسرائيليّ ضاغط وقطر واحدة من تلك العناوين، للضغط على يوحنا العاشر بسبب مواقفه الواضحة من الصراع في سوريا ومواقفه من مسألة الوجود المسيحيّ العربيّ ودعم الأنطاكيين لموقف المقدسيين سواء بتعريب كنيسة أورشليم هويّة وتنظيمًا. ولكون طابع المجمع إكليزيولوجيّ أي كنائسيّ يقوم على سرّ الشكر، وبما ان الشركة مقطوعة بين الكنيستين فيستحيل ان يتلاقى البطريركان في قداس واحد.

المجمع الكبير ضرورة استراتيجيّة للجميع، للمسيحيين بصورة عامة والأرثوذكس بصورة خاصّة. لكنّ مجمعًا ليس خاليًا من مخاطبة لمسيحيي المشرق العربيّ يبقى أجوف. ليس النص اللاهوتيّ همًا كبيرًا، بل الهمّ الأكبر أن يبقى يسوع المسيح راسخًا في المشرق بأبنائه، كثيرون منا انتظروا انتفاضة ارثوذكسيّة عارمة على خطف المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم، والشكر للبابا فرنسيس والبطريرك كيريل لأنهما استذكراهما في ظلمتهما، هذا مجمع محصور بقواعد سياسية ملتبسة وهجوس بجيوبوليتيك خانق ممدود من روسيا إلى المشرق، والحاجة أن يبقى الأرثوذكس شهودًا للمسيح الظافر.

هل تحصل الأعجوبة وينعقد المجمع الكبير في كريت؟ لننتظر ونرَ.