IMLebanon

شمولية الموازنة

التبشير له حسناته وسيئاته، فالتبشير الديني اعتبره البعض عملاً بغيضاً غير مرغوب فيه يؤدي الى تغيير معتقدات الشعوب. هذا على الصعيد الديني، أمّا التبشير الاقتصادي فله أربابه أيضاً لكنّه تبشير حسب رأس الزبون، وأتذكر مواضيع اقتصادية عدة وعلى رأسها ضريبة القيمة المضافة TVA، ومن كان يُبشّر بهذه الضريبة الحديثة التي تُعتبر من أكثر الضرائب عدالة وفعالية.

كلفة جباية هذه الضريبة قد تكون الأقل كلفة، وبالتالي تُعتبر ضريبة فعّالة. هذا التبشير أتى من دولة الرئيس فؤاد السنيورة في اجتماع تبشيري قبل فرض هذه الضريبة، وكان الأهمّ خلال الاجتماع التأكيد أنّ كل الضرائب الاستهلاكية الشبيهة بالـTVA ستزول مع اعتماد TVA. اعتمدنا الـTVA وما زالت كل الضرائب الاستهلاكية قائمة وبصحّة جيدة.

أمّا التبشير حول شمولية الموازنة، فكان الأكثر شراسة، خصوصاً أنّه شرط من شروط انضمامنا الى منظمة التجارة العالمية التي تعتبر أنّ الضرائب او الرسوم لها اتجاه واحد فقط لا غير، وهو الخزينة العامة، ولا يجوز جباية الضرائب من العِباد لصالح مؤسسة خاصة، إن كانت نقابة او وزارة او مصلحة خاصة… وهذا التبشير كان ايضاً قريباً جداً على قلب الرئيس السنيورة الذي كان يعتبر أنّ شمولية الموازنة من المقدسات، كما اعتماد المعايير العالمية للتدقيق والتي تفرض أن يدخل كل قرش من الضرائب الى الخزينة ويُصرَف حسب الأصول من خلال الموازنات.

وقد كان لنا مع موضوع شمولية الموازنة جولات وصولات خلال خدمتي في وزارة السياحة، حيث كنت قد اقترحتُ إنشاء صندوق خاص للموظفين، وبعد استشارتنا للدائرة القانونية وللخبراء القانونيين، تمّ إبلاغنا انه مخالف لقوانين الادارات العامة في لبنان، وبناء عليه تمّ دفن المحاولة في مهدها، إيماناً منّا بالتزام القوانين المرعيّة الإجراء، وبعد اقتناعنا بأنّ الافضل هو إنشاء شباك موحّد وتفعيل عمل الادارة.

وطالَبنا ايضاً باقتطاع رسم اعادة بناء المدينة الرياضية التي أعيد بناؤها وتخريبها مرات ومرات، والبالغ 5 آلاف ليرة لبنانية وتحويله رسماً للترويج للبنان عالمياً والذي يُجبى كضريبة على تذاكر السفر، أيضاً وأيضاً دفَعنا موضوع شمولية الموازنة الى إيقاف القرار.

وكنتُ قد طالبت مراراً بتعميم موضوع شمولية الموازنة ليشمل ايضاً مرفأ بيروت الذي يتقاضى ضرائب سيادية من الناس وتلك لا تذهب الى الخزينة العامة وتُصرف من دون تطبيق قوانين المحاسبة العمومية.

وهنا لا بد من الاشارة الى أنّ النقابات، وخصوصاً نقابات المهن الحرة، تموّل صناديقها من الضرائب على العِباد. وهذا ايضاً مخالف لشمولية الموازنة والاتفاقات التي وقّعها لبنان مع منظمة التجارة العالمية WTO كما ذكرنا أعلاه.

لفتَ نظري المؤتمر الصحافي لمعالي وزير العمل سجعان القزي حيث أعلن انه بصدد إنشاء صندوق خاص لموظفي وزارة العمل تأميناً للمصلحة العامة وعدم لجوء المواطن الى السمسرة وتحقيق الربح على حساب الموظفين، يُموّل من المواطنين الذين يريدون إنجاز معاملاتهم بسرعة.

الملفت أنّ الوزير القزي أصدر قراره من دون اللجوء الى هيئة التشريع والقضايا لسؤالها عن قانونية القرار، ولم يمرّ في مجلس الوزراء وهنا الخطورة حيث يتحوّل كل وزير مشرّعاً خاصاً، يُصدر قرارات من هذا النوع بطريقة فردية.

امّا شمولية الموازنة التي احترمناها على مدار سنوات تمّ ضربها عرض الحائط مروّجين لطريقة جديدة قد تتبنّاها بقية الوزارات اذا تمّ العمل بهذا القرار، فما الذي يمنع اليوم كل وزارة من إنشاء صندوق مماثل وحينها لنترحّم على ما تبقى من إنتاجية في القطاع العام.

فمَن قرَّر ما قيمة الخدمات المدفوعة ومَن قرَّر كيفية تقسيم الحصص حيث أعطي للمدير العام الحصص الأعلى؟ ألا تتطلّب هذه القرارات استشارة مجلس الوزراء وموافقته واذا كان القصد وضع رسوم لهذا النوع من الخدمات، فتُحال الاموال الى الخزينة العامة ويتمّ توزيعها عبر قرار في مجلس الوزراء؟

والسؤال الأهمّ، عبر تعميم هذا النوع من الصناديق: ايّ انعكاس سَتحمل على أداء القطاع العام؟ فبدلاً من تفعيل عمل القطاع العام، نخلق خدمات من هذا النوع لتقاضي العمولات وتبقى المعاملات الاخرى متروكة أشهراً داخل الادراج، هذا عدا عن انّ المبالغ المقترحة هي منخفضة نسبياً أي مبلغ 50 ألف ليرة لبنانية، وقد يدفعها من الآن وصاعداً كل من يقدّم معاملة الى وزارة العمل بلا استثناء، ما يُرجعنا الى النقطة صفر، عبر تراكم المعاملات والسؤال عن سرعة إنجازها.

ولا بد من التذكير بأنه تمّ اعتماد أسلوب مماثِل مع موظفي الجمارك عن طريق فرض ما تمّ تسميته «مساعي» على كل المعاملات الجمركية، وهذه لم تسرّع المعاملات بل على العكس، زادت التكاليف على المستورد وبالتالي على المستهلك، ولم تنخفض الرشاوى أبداً.

والسؤال الاكبر: اذا كان بالإمكان إنهاء المعاملات في وزارة العمل خلال 24 ساعة، لماذا كان يتمّ «نَقع» المعاملات في الوزارة؟ ألم يكن ذلك مقصوداً من موظفي وزارة العمل لتسيير عمل السماسرة وتقسيم الغَلّات؟ واذا كان هذا هو الواقع أليس الافضل فتح تحقيقات ومعاينة طريقة العمل بدلاً من مكافأة الموظفين المتواطئين مع السماسرة والرضوخ لهم عبر إنشاء الصندوق؟

كيف سيقتنع اليوم ايّ موظف في وزارة أخرى بالعمل بضمير بعد الإجراء الذي اتخذته وزارة العمل؟ ولماذا زيادة أجور مقنّعة على رواتب موظفي وزارة العمل دون غيرهم من موظفي القطاع العام؟

ما زلنا في لبنان نَهوى تشريع الكسل والخمول والسمسرة، ونزرع ذلك في ثقافتنا المشتركة، وبدلاً من تطهير اقتصادنا للانتقال الى الاقتصاد الحديث وتطبيق كل الشروط الدولية، نُصرّ على تكبيل الاقتصاد بإجراءات غير مفهومة.