ليس صدفة أن يتزامَن الإعلان عن حصار حلب وإنقلاب الحوثيين وحلفائهم في اليمن، إذ إنّ الفصل مستحيل في المواجهة بين الحلف العربي وإيران وحلفائها في اليمن، وما بين الحلف الدولي والنظام السوري وحلفائه في سوريا. فأبطالُ الحربين هم أنفسُهم منقسمون بين محورَي طهران والرياض ليصبح الملفُّ واحداً. وفي ظلّ الخلل الفاضح يبقى الرهانُ على تسويةٍ روسية – أميركية، وإلّا فكلّ التسويات في خطر؟
تُجمع التقارير الواردة من واشنطن وموسكو وطهران والرياض على أنّ مشاريع التسوية السياسية التي يُعدّ لها المجتمع الدولي في اليمن وسوريا ستكون من الماضي قريباً ما لم تفعل التفاهماتُ الجاري بناؤها بين واشنطن وموسكو فعلها في لجم التدهور ووضع حدٍّ لكلّ العمليات العسكرية الكاسرة للتوازنات التي تُتيح فتحَ الباب أمام التسويات السياسية التي يُعدّ لها المجتمع الدولي بشأن اليمن في الكويت، وما تُعِدّ له الأمم المتحدة في جنيف.
ليس في هذه المعادلة سوى توصيف عام لما آلت اليه الأحداثُ في سوريا واليمن من دون أيّ مبالغة. وهي ترسم خريطةً جديدة لمواقع القوى في الدولتين لأنّ ما شهدته الأيامُ الماضية يؤدّي الى «خربطة» الستاتيكو الذي كان قائماً في الدولتين على قاعدة التوازن العسكري السلبي الذي فتح المجال لفترة وجيزة أمام إحياء مشاريع التسوية السياسية في الكويت وجنيف. وكلّ ذلك حصل بوجود قناعة شاملة لدى رعاة المفاوضات تقول إنّ هذه المشاريع ستنهار تلقائياً فور حصول أيّ خللٍ في موازين القوى العسكرية بين المتقاتلين.
وعليه، فإنّ الخللَ قد وقع من خلال تطوُّرَين بالغي الخطورة:
– الأول تمثّل في تحقيق الجيش السوري ومن خلفه القوة الإيرانية الضاربة وتلك التي شكلتها الوحداتُ الخاصة لـ»حزب الله» انتصاراً في حلب بعدما عزّزت حصارها على المدينة وريفها الشمالي وفصلتها عن خطوط إمدادها وصولاً الى الحدود التركية التي شكلت الشريان القوي لإمدادها بكلّ عناصر القوة العسكرية والغذائية والطبّية رغم الخطوط الحمر التي رسمتها الولايات المتحدة حولها لأسباب عسكرية استراتيجية وإنسانية تفوقها أهمية، والتحفّظات البريطانية والفرنسية التي حذّرت عبر وزيرَي خارجية البلدين السوريين وحلفاءهم من استمرار الحصار على حلب.
– والثاني تمثل في ما يمكن تسميته الإنقلاب على «تفاهمات الكويت» لحلّ الأزمة سلمياً في اليمن والذي تجلّى في إعلان تشكيل «المجلس السياسي الأعلى لحكم اليمن» بين قيادة الحوثيين والرئيس السابق علي عبد الله صالح لحكم البلاد انطلاقاً من عاصمتها صنعاء تحت شعار «مواجهة العدوان وإدارة البلاد ورسم السياسة العامة للدولة وفقاً للدستور»، وهو ما يقود الى مواجهةٍ عسكريةٍ جديدة.
وأمام هذين الحدثين اللذين شكّلا خرقاً للستاتيكو الدقيق القائم، رفع المراقبون من نبرة التحذير من انهيار كلّ مساعي التهدئة التي تقودها الأمم المتحدة وسعاة الخير من مختلف الدول التي تتعاطى بالملفّين، وهو ما يُهدّد بتصعيدٍ عسكريٍّ خطير سيقود الى تقدّم المسارات العسكرية مجدّداً على أيِّ مسعى يقود الى مسارٍ سياسي وسلمي.
ولتأكيد أهمية وخطورة ما هو متوقَّع، يكفي التوقف عند ما نقلته مراجع ديبلوماسية في طهران الى عواصم المنطقة، ومفاده أنّ إيران غير معنيّة بالتحذيرات البريطانية والفرنسية الأخيرة كما بالخطوط الحمر الأميركية المرسومة سابقاً لرعاية المصالح التركية والسعودية وغيرها من أطراف الحلف الدولي. فإيران تعمل مع الشرعيّة السورية وتحت راية الجيش السوري النظامي وليس لها أيُّ كيانٍ أو قوة عسكرية إيرانية تعمل على حسابها وخارجَ التحالف القائم دعماً للنظام.
كما أشارَت الرسائلُ الديبلوماسية الإيرانية إلى أنّ مَن قاد العملياتِ العسكرية في مواجهة النظام السوري يتحمّل مسؤولية أعماله وأنّ المعركة الدائرة سترسم مستقبلَ الوضع في سوريا ومَن يجمع النقاط على الأرض سيكون الأقوى على طاولة المفاوضات في جنيف أو غيرها.
أما بالنسبة إلى اليمن، فتؤكد القيادة الإيرانية أنه ليست لها أيُّ علاقة مباشرة بالأطراف اليمنيين الذين يواجهون الحلف السعودي وهم أقوياء بما فيه الكفاية ولا يحتاجون أيَّ دعمٍ إضافي سوى الدعم الإعلامي والسياسي.
وعند هذه الرسائل الإيرانية المتشدّدة، تبرز أهميةُ التحذيراتِ الواردة من واشنطن وباريس ولندن التي تُهدّد بالأسوأ في حال استمرار الحصار على حلب، ذلك أنّ مصيرَ ما يقارب نصف مليون سوري على المحك وهم مشاريع قتلى أو نازحين الى الأراضي التركية الأقرب، وهو ما يفاقم الأزمة الإنسانيّة الناجمة من تلك الحرب على السوريين ودول الجوار عدا عن الإرهاب المصدَّر الى الخارج.
وأمام هذه المواجهة الديبلوماسية المفتوحة بين حلفاء النظام في سوريا من جهة ودول الحلف الدولي من جهة أخرى، يجدر التوقف أمام صمت الرياض تجاه ما حصل في اليمن من جهة والصمت السعودي – القطري – التركي تجاه ما حصل في حلب من جهة أخرى، ليبقى الرهانُ على دور الراعي الروسي – الأميركي لإعادة هندسة المنطقة، وهو ما توقّعته مراجعُ ديبلوماسية بارزة عندما تحدثت عن فتح الخطوط الخاصة بين العاصمتين وتجلّى بمبادرةٍ روسيّة بفتح ممرّات إنسانية آمنة أمام المدنيين المحاصَرين في حلب استباقاً لأيّ ردّ فعلٍ سلبي أميركي متوقَّع في الساعات المقبلة.
وعليه، لم يبقَ أمام المراقبين الذين يتابعون مسار الأحداث سوى ترقب المقاربة الأميركية – الروسية للأحداث والمستجدّات العسكرية والسياسية، فقد تأتي بجديدٍ يدلّ على حجم التفاهم بينهما على إدارة المعركة في المستقبل وسط معلومات تقول إنّ ما يحدث لم يكن إلّا برضى الطرفين ورعايتهما على أن يتولّى كلٌّ منهما «ضبضبة» حلفائهما ضمن التسوية التي رسما سقوفها في الأسابيع الماضية.
مع الإعتراف مسبَقاً بالمصاعب التي تواجههما لإنقاذ التسوية السياسية وإلّا سيكون عنوانُ المرحلة المقبلة مزيداً من القتل والتدمير على أنقاض مشاريع التسوية السياسية في اليمن وسوريا بعيداً من الكويت وجنيف، ومعهما الاستحقاقات اللبنانية ولا سيما الرئاسية منها.