Site icon IMLebanon

الممر الإجباري وديمقراطية المعايير

في الوقت الذي يتولى فيه الرئيس بري لملمة ما تيسر له الإمساك به من الواقع السياسي المتفلت في هذا البلد المنكوب، من خلال الحوار الذي يشرف عليه ما بين تيار المستقبل وحزب الله، محاولا الإبقاء عليه في الثلاجة الحوارية علّها تبرّد بعض أجوائه وتمنع عنها مزيدا من اللهب والإلتهاب، مما قد يطاول هذا الوطن بما لا تحمد عقباه.

وفي الوقت الذي أدى التواصل الدائب ما بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية إلى حوار أدت نتيجته إلى صدور ورقة تفاهم حول ما يجمع بين الفريقين، متفادياً الإشارة إلى الإختلافات والتباينات التي ما زالت قائمة بينهما، كما أدى ذلك إلى سكون شبه كامل في الجبهة السياسية الملتهبة التي سادت ما بين الفريقين على مستوى عقود من الزمن وصلت فيها الأوضاع المتردية ما بينهما إلى حدود حرب إلغائية حامية الوطيس، سبق أن شنّها العماد عون على «ميليشيا القوات»، وتلاها ما تلاها من تطورات وأزمات حادة أدت إلى نفي الجنرال عون إلى فرنسا لمدى يناهز الخمسة عشر عاما، وإلى سجن قائد القوات سمير جعجع في الطوابق السفلى من وزارة الدفاع لمدى يناهز الأحد عشر عاما.

في الوقت الذي يستمر فيه هذا النهج الوفاقي في عملية التبريد والترطيب وضبط ما أمكن من الخلافات والتفلتات بحيث غابت لغة التفجير والإستنفار العسكري الشارعي، وإن داخلته أزمات حادة ذات طابع إجتماعي وحياتي، كأزمة النفايات،  كما طاولتها «صحوة مصطنعة» لدى البعض على ما أسمي بحقوق المسيحيين، وفي طبعته المستجدة ما أسمي ابتداعا، بعزل الجنرال عون، مع قلب مقصود للواقع القائم، حيث أن الجنرال هو من عمد إلى عزل جميع القادة السياسيين الآخرين وأصدر بحقهم حرما يمنعهم بموجبه، من مجرّد التفكير في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، علما أن ذلك قد أدى عمليا وواقعيا إلى تعطيل الحياة السياسية والإدارية بكل مقوماتها ومواقعها، بدءا من رئاسة الجمهورية التي ما زال رأس رئيسها مقطوعا، وما زالت كرسي الرئاسة خاوية ومنزوية في خبايا التجاهل والنسيان، وما زال القصر الجمهوري، تداخله الرياح والعواصف ويكاد أن يكون خاوياً من أي زائر أو مقيم، لنصل بعد ذلك إلى مجلس النواب الذي لولا حراك رئيسه، ولولا تعيين جلسات متتالية لانتخابات رئاسة الجمهورية بلغ مقدارها على مدى ما يزيد على العام سبعاً وعشرين جلسة، ولولا نزول بعض نواب الأكثرية النيابية إلى مقر المجلس للحفاظ على شكليات دستورية ما زالوا يستنهضونها، أملا في حصول انتخابات رئاسية… لولا ذلك لكان المجلس النيابي موقعا ودورا ومؤسسة تمسك بخيوط البلاد الدستورية والتشريعية، قصرا من قصور الأشباح التي يحكى عنها بما تحتويه من فجائيات مفزعة.

أما عن مؤسسة مجلس الوزراء… فحدّث ولا حرج، وبعد أن ألقيت فيها وعليها كل التبعات المتعلقة بقيادة الدولة وشؤون الحكم والإدارة نظرا لغياب موقع رئاسة الجمهورية، ها هي المؤامرات والمفخخات والمطبات والزعرنات تطاولها من كل حدب وصوب، وسط استمرار مذهل لرئيس مجلس الوزراء في عملية الصبر والتحمل والعض على الجراح والمكاره التي يكابدها، وهو في مواجهاته اليومية، مع تآمر المتآمرين ودلع المتدلعين، وشغب المعطلين، وطموح الطامحين والطامعين بوضع اليد على كل مقاليد البلاد وصولا في ذلك إلى فرض وقائع جديدة على وضعية العيش المشترك القائم، والقواعد الميثاقية والدستورية، وهكذا وبعد أن جُرِّد الوطن من معظم معالم الدولة والحكم فيه، ها نحن اليوم أمام جملة من المواقع والمواقف والمفاهيم والأساليب الطارئة والمستجدة والتي من خلالها يحاولون تسيير شؤون الوطن السيد الحر المستقل الديمقراطي النهج، الميثاقي الوجود، على أصول وقواعد ما أنزل الله بها من سلطان، وهم يصرّون على أحقيتها وأفضليتها ووجوبية قلب معالم الوطن بكل فئاته وجهاته ، والبناء الجديد فوق بقاياها وأطلالها.

شهد اللبنانيون في هذا الشأن جملة من المواقف الغريبة والمستهجنة والمرفوضة:

ــ أولها، مواقف الجنرال عون، التي تزعم أن الوضع القائم يشهد افتقارا للتوازن بين القوى الميثاقية، وقد دفع المسيحيون ثمن هذا الخلل، الأمر الذي يستدعي استثارة الحساسيات الطائفية والنزول إلى الشارع والصياح بأعلى الصوت: يا غيرة الدين، وكل ذلك مزاعم تفتقر إلى الكثير من الصحة، أخذاً بالعلم أن مواقع رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وحاكمية البنك المركزي ومديرية المخابرات في الجيش وعددا كبيرا من المديريات العامة والمواقع الأساسية في الدولة هي من حصة الإخوة المسيحيين. ولئن كانوا قد خسروا مديرية الأمن العام التي كانت تقليدياً من حصة المسيحيين، فذلك عائد إلى تنازل من الجنرال عون وموافقة صريحة منه على هذا الوضع المستجد فليسأل التيار العوني نفسه حول خبايا وخلفيات هذا الوضع الذي بات معلوما ومكشوفا للجميع. علما بأنه في حال وجود خلل في التوازن المذكور، فإنه يمكن التطرق إليه وتقويمه بالأساليب الميثاقية والدستورية وبالقواعد الديمقراطية وفي ظروف ملائمة وهادئة وخالية من لغة الضغط والتظاهر وإطلاق الشعارات الإفترائية.

ــ مواقف الجنرال عون المحوّرة والمزوّرة للمواقف العامة في البلاد لتحميل تيار المستقبل خصوصا واللبنانيين السّنة عموما، مسؤولية كل ما تعاني منه البلاد من معضلات وإشكالات، متناسية كل الموانع والجهات المانعة، وما أدّى إلى إعاقة البلاد عن استمرارية السلطة في أداء مهامها وواجباتها وإنقاذها مما هي فيه من تدهور لم تشهد له مثيلا من قبل، الأمر الذي نعيده، إلى وضعية الدولة والدويلة، والإزدواجية في الإمساك بخيوط البلاد ونقلها أوضاع السلطة الشرعية فيها إلى دويلة التحكم بالسلاح المهدِّد والضاغط على كل مفاتيح الدولة الشرعية وصولا في ذلك إلى تجميد كل مؤسساتها وإداراتها بكل وسائل الإكراه والتسلط المضادة للأصول الميثاقية والدستورية والقانونية.

ــــ إتخاذ حزب الله، الجنرال عون غطاء للتصرفات المتحكمة والمستحكمة بالأوضاع العامة من قبل بعض حلفائه والإستمرار في دفعه وتشجيعه على اتخاذ المواقف الآيلة إلى تحقيق المطامح والمطامع والسياسات الإيرانية المتسلحة بقدرات وطاقات الجهة التي تتبناها، وقد وصل بها الأمر إلى اعتبار أن الجنرال عون الحالم الدائم والساعي المداوم على الوصول بأي ثمن إلى رئاسة الجمهورية، الممر الوحيد إلى تلك الرئاسة بل الممر الوحيد إلى اتخاذ القرارات المعطلة لما تبقّى من الدولة ومؤسساتها مستعيدة بذلك، إطلاق الشعار المشهور، «عون أو لا أحد»، وبمعنى آخر عون أو لا دولة.

وبعد: اللبنانيون بانتظار أن يُفسر لنا الجنرال أو أي من حلفائه المحليين لماذا يجيء خطاب سماحة السيد بعد أن قُضي الأمر واتُّخذ القرار بالتمديد للقادة الأمنيين، ولماذا لم يسأل الجنرال سماحته عن سر سكوته وبالتالي موافقته على التمديد الحاصل لهم بمن فيهم الجنرال قهوجي، ولماذا يوجه الجنرال كل صياحه وصراخه بوجه تيار المستقبل وحده لا شريك له، تاركا المجال لمحازبيه ومؤيديه ومتظاهريه لإطلاق شعارات مذهبية صارخة تتهم تيار المستقبل وبيئته الحاضنة، بالداعشية وبالإنتماء إلى الدولة الإسلامية، وهو اتهام افترائي ساقط ومغرض ؟.