بين عدد الدول المكتملة العضوية في هيئة الأمم المتحدة توجد 105 دول تمارس ثلاثة مستويات من الديموقراطية وفق مؤشر مجلة «ايكونوميست» للديموقراطية لعام 2015 هي: الديموقراطية المكتملة والناقصة والمركبة. ووفق هذا المؤشر فإن على العالم أن يمشى خطوات واسعة حتى تصبح الديموقراطيات المكتملة هي الأكثرية بين دول العالم، إذ إن عددها اليوم لا يزيد على العشرين. وعلى رغم التقديرات المتفائلة التي شاعت في التسعينات حول الموجة الثالثة من الديموقراطية، فإن العالم يبدو وكأنه عرضة لموجة مضادة تنتشر عبرها النزعات الطاردة للديموقراطية.
يعيد البعض هذه التوقعات المتشائمة الى عدد من الأسباب يأتي في مقدمها التدني المتفاقم للمشاركة الشعبية في المجالس وفي مؤسسات الحكم. وهذا التراجع بدأ في الستينات ولا يزال مستمراً حتى اليوم. وخلافاً للانطباع السائد الذي يربط بين تطور وسائل الاتصال الاجتماعي من جهة، والمشاركة الشعبية في العمل السياسي والبرلماني من جهة ثانية، فإن عدداً متزايداً من علماء الاجتماع والسياسة يرى أن هذا التطور كان سبباً رئيسياً للتراجع في إقبال الناخبين والناخبات على المساهمة في العملية الانتخابية.
ووفق هذا الرأي فإن الطفرة في وسائل الاتصال الاجتماعي شجعت انماطاً معينة من الاتصال السطحي والعابر بين الناس على حساب العلاقات الانسانية الراسخة وصلات التضامن المستمر الذي توفره عادة الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية والأندية الثقافية والجمعيات التي يلتقي فيها الأفراد وجهاً لوجه. ومع تراجع هذه الجماعات التي تضطلع بدور مهم في تشجيع الناخبين والناخبات على التواصل الانتخابي وعلى المساهمة في العملية الانتخابية، تراجعت نسب المقترعين على النطاق العالمي وخلال العقود التي تلت الستينات.
ولئن صح هذا التقييم لدور ثورة الاتصال أم اخطأ، فإن التراجع أو على الأقل التأرجح في نسبة إقبال الناخبين على الاقتراع هو حقيقة تستأثر باهتمام المعنيين بمستقبل الديموقراطية في العالم. وهذه المشكلة حرية باهتمام المعنيين بمستقبل الديموقراطية في المنطقة العربية بصورة خاصة، إذ إن هذه المنطقة باتت في أدنى المستويات في الحساب الديموقراطي بالمقارنة مع الأقاليم الاخرى في العالم. وبديهي أن الاهتمام بمعضلة تدني نسبة الإقبال على الانتخابات يعني التفتيش عن حلول معقولة لها.
ولكن قبل أن نبحث في هذه الحلول فإن من الضروري التطرق الى الملاحظتين التاليتين: الأولى هي أن الأنظمة المطلقة في العالم لا تعتبر نفسها معنية بمعضلة تراجع نسب المقترعين في الانتخابات العامة لأنها تضمن بشتى وسائل التدخل الحكومي المشاركة الشعبية الشكلية في الانتخابات العامة. وفي هذه الأنظمة قلما تراجعت نسبة المشاركة عن تسعين في المئة من عدد المواطنين. بالمقارنة فإن الأنظمة المعنية بتعزيز المشاركة الشعبية في الانتخابات العامة هي تلك التي تندرج تحت التصنيف الثلاثي الذي تستخدمه، كما جاء أعلاه، مجلة «ايكونوميست». الملاحظة الثانية، هي أن الأولوية اليوم هي لإنهاء الحروب التي اجتاحت المنطقة. ولكن التشديد على ضرورة إنهاء الحروب في الدول العربية لا يمنع الاهتمام بالتجارب السياسية التي تمر بها دول أخرى تسعى الى تطوير تجاربها البرلمانية والانتخابية مثل المغرب والأردن والجزائر ولبنان. ثم أن أي مشروع للسلام في الدول التي تعاني من الحروب مثل سورية والعراق وليبيا واليمن لا بد من أن يتطرق الى بحث قضايا المشاركة الشعبية في الحكم، إي إن التفكير الجماعي في الوسائل التي تكفل للمواطن اختيار ممثليه في الهيئات الاشتراعية يدخل في صلب مشاريع السلام المطروحة على المتحاربين اليوم.
هناك مقترحات وخيارات عديدة مطروحة حول مستقبل النظام السياسي في المنطقة العربية وحول الآليات والسبل الأنجح لتعزيز المشاركة السياسية في دولها. ويأتي مقترح الاقتراع الإلزامي في مقدم هذه المشاريع. وكان من المعتاد أن يلقى هذا المقترح معارضة واسعة بخاصة من قبل الأوساط الليبرالية والديموقراطية التي كانت تعتبره متعارضاً مع الحقوق الفردية، وتعتقد أن الاقتراع هو حق ولا يدخل ضمن الواجبات المفروضة على البشر. إلا أن هذا المشروع يلقى اليوم تأييداً متزايداً بحيث اجتذب شخصية في مقام الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي تبناه في معرض نقده للثغرات الواسعة في الانتخابات العامة. واعتبر أوباما أنه لو طُبق الانتخاب الالزامي في الولايات المتحدة لكانت الطبقة المتوسطة وذوو الدخل المحدود أعلى صوتاً في الحقل العام ولتمكنوا من الحد من أثر هذه الثغرات على العملية الانتخابية الأميركية.
على رغم تزايد التأييد للاقتراع الإلزامي، فإن عدد الدول التي تطبقه لا يزال ضئيلاً، فمن بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ينحصر تطبيق الاقتراع الإلزامي بـ 31 دولة تنتمي الغالبية الساحقة منها الى إقليم واحد في العالم هو أميركا اللاتينية. فهل نجحت هذه الدول في تعزيز الإقبال على الاقتراع في الانتخابات العامة؟ وهل يشكل هذا النجاح حافزاً للدول العربية وللبنان على تطبيق الاقتراع الإلزامي؟
لقد حقق الاقتراع الإلزامي نجاحاً كبيراً في أكثر الدول التي طبقته بجدية وفاعلية. ففي استراليا طبق الاقتراع الإلزامي بحزم ودقة ابتداء من عام 1920، ومنذ ذلك التاريخ وحتى تاريخنا هذا لم تتراجع نسبة المقترعين عن التسعين في المئة من العدد الإجمالي للمواطنين المدرجين على لوائح الانتخاب. تنطبق هذه القاعدة أيضاً على عدد من الدول التي ارتفعت نسبة المقترعين فيها الى ما يفوق الثمانين في المئة (بلجيكا، السويد، تركيا الخ…) من مجموع المواطنين. وتقدم تشيلي دليلاً اضافياً على أهمية الاقتراع الإلزامي في ارتفاع نسبة المقترعين. فعندما طبقت الحكومة التشيلية مبدأ إلزامية الاقتراع عام 2010، بلغت نسبة المقترعين 87 في المئة من مجموع الناخبين، ولكن عندما أبطلت تطبيق هذا المبدأ خلال عام 2013 انحدر عدد المقترعين الى ما دون النصف.
تقترن هذه النجاحات بتقدم أحرزته الدول التي طبقت الاقتراع الإلزامي على أصعدة متعددة. فارتفاع نسبة الناخبين ساهم في تعزيز مشروعية المؤسسات الحاكمة، بخاصة إذا أجريت الانتخابات العامة في ظل رقابة المنظمات الدولية. كما أن تطبيق الإلزامية ساهم ايضاً في تعزيز الثقافة السياسية بين المواطنين والمرشحين على حد سواء. ويشجع الاقتراع الإلزامي أيضاً المرشحين والنواب على الاهتمام بمصالح وتطلعات المواطنين بصورة عامة، ويساعد على الحد من الطابع الفئوي والضيق للحملات الانتخابية. وبما أن الدولة تتحمل مسؤولية تطبيق مشروع الاقتراع الإلزامي فإنها تجد نفسها مضطرة لضمان مشاركة أكبر عدد من المواطنين والمواطنات بأقل كلفة ممكنة مما يقلل من هيمنة المال السياسي على العملية الانتخابية، ويساعد على وصول مرشحين يعبرون عن مصالح الطبقة المتوسطة والفئات الشعبية والمحدودة الدخل الى المجالس الشعبية.
هذه الفوائد المتوخاة تستجيب الى مصالح العديد من الشعوب والجماعات البشرية. فتعزيز ثقافة الشعوب والنخب السياسية هو حاجة ماسة اليوم للحيلولة دون تكرار ظاهرة دونالد ترامب في ساحة السياسة الدولية. وكما يوفر الاقتراع الإلزامي فوائد لأكثر دول العالم، فإنه يوفر ايضاً منافع تفيد منها بخاصة الدول العربية، سواء التي تعيش اليوم مرارة الحروب الأهلية، او تلك التي نجحت في حماية نفسها منها حتى هذا التاريخ. وفيما تجتاح المنطقة، الى جانب الحروب والفتن، أطياف المخاوف والقلق الوجودي، فإن لبنان يبدو وكأنه يبذل محاولات الساعة الأخيرة لترسيخ الاستقرار ولإعادة الحياة الطبيعية الى أراضيه. وبينما تتضمن هذه المحاولات اتفاق الزعماء اللبنانيين على مشروع قانون للانتخاب، فإن لبنان سيفيد نفسه ويفيد الدول العربية الشقيقة اذا أقر قانون انتخاب يتضمن الاقتراع الإلزامي للبنانيين المقيمين والمهاجرين وتوضيحاً لآليات تطبيق هذا المشروع. إن المنطقة تتعرض الى ما دأب الكثيرون على وصفه بـ «اللبننة»، أي الى مشاريع تشطير وتقسيم لا قرار لها. أن أحياء الاقتراع الإلزامي الذي أقره اللبنانيون في مطلع الخمسينات من دون أن يحسنوا تطبيقه قد يساهم في إضفاء معنى جديد لـ «اللبننة» يقترن بالوحدة الوطنية واليقظة السياسية والنهوض الثقافي. بذلك يسدي اللبنانيون الى انفسهم والى الاشقاء العرب خدمات لا تقدر بثمن.