تعتقد مراجع معنية بقضية النازحين واللاجئين السوريين أنّ أخطر ما يواجهه لبنان يكمن في مقاربات بعض السياسيين الخاطئة لهذا الملف، والتي تنمّ عن جهلهم المطبَق بالحقائق. ولم يظهر أنّ عدداً منهم يمتلك معلومات دقيقة حول حجمها ونتائج المفاوضات مع المنظمات الدولية وتلك الجارية في كواليس المؤتمرات، ما يجعل الملف ورقةً في المناكفات السياسية الداخلية. فما الذي يبرّر هذه القراءة؟
متّكئاً على سلسلة من التقارير والدراسات المتكدسة يعبّر أحد المعنيين بالملف عن خيبة أمله من بعض السياسيين الذين تناولوا في الأيام الماضية ملفّ النزوح السوري وتداعياته على الساحة اللبنانية من زوايا عدة سياسية، اقتصادية، اجتماعية وإنمائية بطريقة اقل ما يُقال فيها إنها تحرّض على التمادي في ارتكاب جريمة حقيقية في حق لبنان واللبنانيين.
ولا يتنكّر المتحدّث عن الظروف السياسية المتحكّمة بالملف من وجهة نظر اللبنانيين بما فيها تلك المتصلة بالنزاع الداخلي والإقليمي والدولي. فالنزوح السوري كان وسيبقى من الملفات الخلافية التي ينقسم من حولها اللبنانيون على الساحة الداخلية يتنازعون من حوله المواقف بتشنّج ملحوظ في بعض المناسبات، وخصوصاً تلك التي تتزامن مع حدث أمني محوره النزوح السوري والمجموعات الإرهابية المتغلغلة في مخيماتهم أو الذين يتّخذون من المخيمات الفلسطينية ومواقع النزوح الأخرى مراكز لهم يتحصّنون فيها لتصنيع العبوات والأحزمة الناسفة وينطلقون منها لإستهداف مقارّ رسمية أو منتجعات سياحية ووحدات الجيش والقوى الأمنية الأخرى، أو أولئك المجرمين الذين تفنّنوا في ارتكاب الجرائم الفردية على أنواعها في حق لبنانيين وعرب وأجانب ومن أبناء بلدهم بهدف الفدية المالية أحياناً أو إنتقاماً، او بغرض النهب والسرقة وقد غصّت السجون اللبنانية بالآلاف منهم.
فالجميع يدرك أنّ من بين النازحين السوريين واللاجئين أيضاً مَن هم مِن معارضي النظام كما مِن مؤيّديه. فمن بينهم مَن لا يستحق صفة «اللاجئ» لأسباب سياسية أو أمنية بالمعايير المعتمدة لدى المنظمات الدولية والإقليمية.
وإنّ بقدرتهم العودة الى بلادهم متى شاؤوا، إلّا أنّ ما يحول دون ذلك أسباب إجتماعية واقتصادية بحتة. وهم فئة من طالبي النزوح الإقتصادي أو السياسي قبل الأمني. فقد تمكّن عدد منهم مِن بناء مصانعهم ومتاجرهم بصورة شرعية أو غير شرعية على مساحة الوطن، وهم «يتلحّفون» صفة اللجوء قبل النزوح شكلاً من أشكال العمالة وهو أمر يقرّ به المسؤولون بلا استثناء والأمثلة على ذلك كثيرة لا تُحصى ولا تُعد.
والى هذا التصنيف بين النازح الأمني والإقتصادي هناك تصنيفٌ آخر للنازحين، فليس جميعهم مِن المعارضين للنظام السوري، وإنّ مِن بينهم مئآت الآلاف الذين كانوا وما زالوا من انصاره يدافعون عنه بما امتلكوا من قوة ومال. والدليل على ذلك ما حظيت به مشاركتهم في الإنتخابات الرئاسية السورية «بالدم» قبل سنوات في لبنان مِن ترحيب النظام وحلفائه في لبنان.
وهل يمكن لأحد أن ينسى تدفّقهم الى مقرّ السفارة السورية في اليرزة والمكاتب الإنتخابية الأخرى وما تسبّبوا به من شلّ حركة السير والتي تُرجمت لاحقاً بمواقف سياسية تباهى بها الديبلوماسيون السوريون وقبلهم والى جانبهم قيادات لبنانية ما زالت تدين بالولاء للنظام برموزه كافة.
على هذه الخلفيات يعتقد المعنيون بالملف أنّ على اللبنانيين إعادة النظر بمواقفهم من هذا الموضوع أو مقاربته بطريقة جديدة وفق المعطيات الدقيقة التي تراعي مصالح اللبنانيين على مختلف الصعد الأمنية والإقتصادية والإجتماعية والديموغرافية خصوصاً والتعاطي معه بعيداً من المناكفات السياسية.
وهو ما يفرض على البعض الذي يدّعي أنه كان يطالب بإقفال الحدود أمامهم وتقنين النزوح في ظروف أمنية خطيرة عاشتها هذه المناطق في ظل المجازر التي ارتُكبت في مناطق سورية عدة جعلتهم «يطفرون» بما خفّ حمله وغلا ثمنه فراراً من مدنهم وقراهم حفاظاً على حياتهم وحياة أطفالهم ولم تكن هناك وسيلة لوقف هذا المسلسل لأسباب إنسانية قبل أن تكون أمنية أو لأسباب أخرى.
وعليه، يعتقد المعنيون بالملف أنّ في إمكان اللبنانيين مواجهة الملف بقرارات واضحة وإجراءات أمنية وعسكرية وإدارية واقتصادية بعيداً من الإستغلال السياسي لمأساتهم. كذلك من دون التغاضي عن المجرمين منهم الذين يريدون شرّاً بلبنان واللبنانيين والمقيمين على أراضيه. علماً أنّ لكل من الحالات هذه آليات واضحة لا تقبل النقاش، وتحديداً عند الأخذ في الإعتبار المعطيات الدقيقة المحيطة بها على اكثر من مستوى.
ويصرّ العارفون على بعض مَن أطلقوا المواقف الأخيرة الإطلاع على الحقائق، ففي الأمس القريب يتناول البعض مضمون تقرير دولي يتحدّث عن عودة 500 ألف سوري من أصل 6 أو 7 ملايين نازح الى أراضيهم في حلب وحمص وحماه ومناطق أخرى. فهل سألوا من أين جاءت هذه العودة؟ التقرير يقول صراحة إنهم كانوا من مهجّري الداخل السوري ونازحيه ولم يعُد أيّ سوري بعد من تركيا أو الأردن أو العراق ودول الشتات.
فمشاريع «المناطق الآمنة» ما زالت حبراً على ورق تجول خرائطها من مؤتمر الى آخر في العالم. هذا عن التجربة اللبنانية المحدودة التي نظّمها «حزب الله» لإعادة مئات من أهالي «عسال الورد» في القلمون وهي عملية وُصفت بانها «محلّية صغيرة ودعائية» كان الهدف منها فتح نقاش حول الملف من باب مطالبة الدولة بفتح باب الحوار مع النظام السوري وهو ما يرفضه لبنان الى اليوم مكتفياً بالقنوات الدولية وإصراره على حرّية النازحين بالعودة الطوعية الى مناطقهم الآمنة متى شاؤوا.
ومن دون الغوص في كثير من التفاصيل من المهم جداً عدم تكرار التجربة الفلسطينية في لبنان لجهة السماح باقتناء السلاح وتجنيدهم لأغراض لبنانية داخلية وهو ما تحول دونه القيادات العسكرية والأمنية حتى اليوم. فهي التي أخذت على عاتقها هذه المهمة الخطيرة رغم التحدّيات الكبرى.
وهنا بيت القصيد، فإبقاء النازحين خارج النزاع الداخلي اللبناني وعدم تكرار المقولة الفلسطينية الشهيرة «إنّ الطريق الى القدس تمرّ بجونية» هي الإجراء الأسلم والأهم لبقائهم «نازحين ولاجئين مدنيّين» وهي ليست بالطبع من مهمة السياسيين الذين يحاولون استغلال القضية على أنها «قميص عثمان» للمتاجرة بالملف في هذا الإتجاه أو ذاك.