يدعو الصراع السياسي المتحكم بتشكيل الحكومة «العتيدة» وبورصة التكهنات حول مواعيد تشكيلها، وآخرها الموعد الذي حدده الرئيس سعد الحريري في اطلالته التلفزيونية الأخيرة بأسبوع او عشرة أيام، الى التساؤل عن مدى قابلية الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية لوقف جميع مناورات التكاذب والتحايل في تعاملهم مع عملية تشكيل حكومة جامعة وقادرة على مواجهة الازمات السياسية والمخاطر الاقتصادية التي يواجهها لبنان في ظل الظروف الخطيرة والضاغطة التي تهدد المنطقة برمتها.
يطرح «مأزق» تشكيل الحكومة في الوقت الراهن، وفي ظل بداية عهد رئاسي جديد، وبعد انتخاب مجلس نيابي في ظل قانون عصري يعتمد النسبية، تساؤلات ملحة حول مدى قدرة اللبنانيين الى التطلع بإخلاص وواقعية الى مستقبل دولتهم ووطنهم، في وقت تحتدم فيه حشود ومبادرات القوى الإقليمية والدولية من اجل إعادة رسم حدود كيانات جديدة، تهدد «الستاتيكو» القائم بموجب اتفاقية سايكس – بيكو.
تفرض مخاطر المرحلة الراهنة على اللبنانيين توخي الحذر واليقظة من مغبة الاستمرار في سلوكية التعطيل والاقصاء عند كل مواجهة استحقاق دستوري سواء لجهة انتخاب رئيس للجمهورية او تشكيل حكومة قادرة على إدارة شؤون الحكم، وان يدركوا بأن استمرار العبث بشؤون الدولة والوطن سيؤدي حتماً الى الضياع والانهيار. بات من الضروري ان يدرك اللبنانيون أيضاً أهمية التعامل بحسن نية وبواقعية في مقارباتهم السياسية لشؤون الحكم وإرساء قواعده على أسس ثابتة ووقف جميع الاعمال «العبثية» التي كادت أن تهدد الكيان والصيغة في محطات عديدة من عمر الاستقلال.
عبّر مؤخراً وليد جنبلاط عن هواجسه من استمرار العبث السياسي في التعامل مع استحقاق تشكيل الحكومة داعياً الجميع الى الكف عن بناء «قصور من ورق»، ومؤكداً بانه «لا عيب في التنازل من أجل الوطن». والتقي جنبلاط في تحذيره هذا مع قول الرئيس جون كينيدي بأن «عدو الحقيقة والواقع هو الأسطورة أكثر من الكذب. في الوقت الذي بات يواجه فيه البلد مفاعيل الأسطورة المتواصلة منذ ما يزيد عن قرنين، سواء لجهة تحديد هويته أو لجهة حضوره في التاريخ ومساهماته الحضارية. لقد بلغ الغرور والاسترسال في التزوير ببعض اللبنانيين الى نسب كل ما انتجته الحضارة اليونانية الى الأجداد الفينيقيين. حدث هذا في عام 1975 في وقت كان فيه اللبنانيون بأمس الحاجة الى وطن منه الى اسطورة.
في ظل الضغوط المرتقبة التي سيواجهها لبنان بسبب العقوبات الأميركية على حزب الله، والتهديدات الإسرائيلية المرتبطة بترسانة الحزب الصاروخية، بالإضافة الى مخاطر تحويل لبنان الى جزء من ميدان العمليات السوري أصبح من الضروري أن يتصف اهل السياسة في لبنان بالواقعية والحكمة والأخلاق وبمؤهلات رجال الدولة الحريصين على تقديم المصلحة الوطنية على مصالحهم الذاتية. ولا بد في هذا السياق من تنبيههم من النظرة التشاؤمية التي بات ينظر من خلالها أصحاب الرأي الى مستقبل لبنان الدولة والوطن. لقد دفعت المأساة السياسة التي عانى ويعاني منها لبنان أحد السفراء الأميركيين من أصدقاء لبنان، ومن الذين لديهم خبرة طويلة ومعرفة عميقة في شؤون البلد الى توصيفه لبنان في بداية مداخله قدمها في منتدى دولي «لبنان ليس دولة فاشلة هو اللادولة، هو قطعة ارض متروكة من السلطنة العثمانية، ولكنها دون سلطان».
تدعو جميع الاستحقاقات وما ستحمله من تساقطات ضارة سياسياً واقتصادياً ان يكف اهل السياسة عن العيش في عالم «الأسطورة» وان يواجهوا عملية تشكيل الحكومة بشجاعة وواقعية ودون كذب او مواربة متحصنين بمواد الدستور والأعراف الدستورية، والكف عن الاجتهادات في خلق المعايير التي يجب اعتمادها في تشكيل الحكومة، والتي لا يراد منها سوى زيادة المكاسب الخاصة على حساب المصلحة العامة وكذريعة لإلغاء الآخرين.
في النهاية، لا بدّ من الاعتراف، ومن ضرورة لفت نظر سيد العهد بأن لبنان قد أصبح مهدداً في كيانه ووجوده كدولة قادرة على الحياة، وايضاً في هويته، وقد وصلت الأمور لدرجة من السوء فاستوجبت طرح تساؤلات داخلية وخارجية حول مدى قابلية المجتمع الدولي لاعتبار لبنان كدولة ووطن بالمعنى الصحيح، من هنا يبقى السؤال الا تستدعي مواجهة هذه المخاطر من قبل الرئيس وكتلته النيابية تقديم التنازلات لتسهيل تشكيل الحكومة كخطوة أولى على طريق انقاذ «العهد» ولبنان.