على وقع مواصلة الخطة الأمنية في البقاع، وبعد نجاحها في سجن رومية، ومصادرة المال والسلاح وأجهزة الاتصالات والممنوعات، مروراً بوَضع حَدٍّ للبؤَر الأمنية المتفَلّتة، وصولاً إلى محاسبة المتورّطين، تدخلُ «الجمهورية» خلفَ القضبان، تكشفُ عن وجهٍ آخر في السجن، وجهٍ إصلاحيّ، إعداديّ، وتنقلُ تجاربَ مساجين محكومين بالإعدام، بالسجن المؤبّد… من ظلمة الزنزانة ينسجون الأملَ بغَدٍ أفضل لهم.
بعد 6 محطات من التفتيش والتدقيق بالهويات وتسجيل الأسماء، وبعد السير على الأقدام نحو نصف ساعة، وصلنا إلى الباحة الخارجية لمبنى (أ) في سجن رومية، مبنى المحكومين. فناجينُ قهوة، عُلب سجائر، بقايا طعام، عبوات مشروب غازيّ… تغطي أرضَ الباحة.
مناشف، ليَف، ملابس معلّقة على القضبان خلفَها أيادٍ تلوّح، هتافات تصدَح: «نغَم بوسيلي لولاد»، «ماما حكي المحامي بلكي بيعمل شي وبِضهَر من هون»، وتوصيات أخرى من مساجين لم تَكفِهم فترة المواجهة مع أقاربهم، فهرَعوا إلى النوافذ المطلّة على الباحة يكمِلون أحاديثهم.
وسط رائحة العفن والرطوبة في الداخل، وقرقعةِ مياهٍ في الخارج، تنهمر من قسطل مكسور يدلِف من الطابق الثاني إلى الملعب، يقفُ طابورٌ طويل من المساجين يتجاوز الـ300، ينتظرون دورَهم، لرَبّما تسَنّت لهم فرصة إجراء مكالمة هاتفية قبل انتهاء فترة النزهة.
أمّا مَن طفح كيله من الانتظار، وما عادت تعني له المواجهات ولا الزيارات، وجَد ملاذاً في «دَق طاولة» من هنا، «فتّة ورَق من هناك»، موّال يُطرب به زملاءَه، أو يسترجع سوابقَه، فيُطيِّبُ له السَمّيعةُ بأجواء من الهرجِ والمرج.
سجين… مدرّس للسجناء
أمّا م. الذي دخلَ السجن وهو في الـ 23 من عمره، وبعد 10 سنوات من الحبس، فقد اختار وسيلةً مغايرة يُمضي بها الوقت، بعدما تبدّلت لديه معاني الحياة. بثقةٍ يفتح قلبَه لـ«الجمهورية»، قائلاً: «لم أفكّر يوماً بأنّني قد أسجَن، بدأت القضية بعملية سَرقة أحد المنازل، حاولَ مَن معي طمسَ السَرقة بجريمةِ قتلِ شخصين، فدسّ لهما السمّ في المشروب، ثمّ طعنَهما، قبل أن يرمي عليهما الأسيد.
لا دورَ لي سوى أنّني أحضرتُ له أدوات الجريمة… دخلتُ السجن وأنا أتعاطى المخدّرات، فبدأتُ في النهار أنام وفي الليل أستيقظ، أسهر مع الشباب. لم أكن أجد صعوبةً في الحصول على المخدّرات، نظراً إلى حسن العلاقة بين الحرس وعدد من السجَناء النافذين».
أمضَى م. 4 سنوات على هذه الحال، إلى أن بدأت صحّته تتدهور نتيجة المخدّرات، وما عاد بإمكانه القيام بأيّ حركة. بعد ترَدّي وضعِه فكّرَ مليّاً أن يعالج نفسَه بنفسِه مسَلّماً أمرَه لربّه، فبدأ يُخفّف تدريجياً تعاطيَه، محاولاً الاستفادة من الفرَص المتاحة في السجن، من ممارسة الرياضة، إلى تسَلّم مسؤوليات تنظيمية، وأخرى لوجستية.
إلى أن تعرّفَ إلى مدرسة محو الأمّية، التي ترأسُها جمعية «عدل ورحمة». فيُخبر: «في الأساس لستُ أمّياً، وقبل دخولي السجن كنت أجري دورةً مكثّفة في الإنكليزية، وسمعتُ من أحد المساجين بأن مدرسة محو الأمّية تشمل تعلّمَ الإنكليزية بمستويات مختلفة، استفسرتُ عن الموضوع، تحمَّست، وبدأت أشارك في الحصَص التدريسية».
رغبة م. في أن يكون منتجاً لم تقف عند هذه الحدود، فانضمّ إلى فريق عمل «عدل ورحمة» في السجن، وبدأ يدرّس زملاءَه المساجين الإنكليزية، مقابل مساعدة مالية رمزية (50 دولاراً) تشتري له الجمعية بها ما يحتاجه من أغراض شخصية.
وعن تجربته يقول: «لا شكّ في أنّني كنت أخجل من الدخول إلى الصف، وأحسبُ ألف حساب لتعليقات المساجين، ولكن لا بدّ من البحث عن بصيص أمل خلف أسوار السجن، خصوصاً أنّ زيارات أمّي وتحسُّرها على شبابي الذي أمضيه في السجن، آلمَني». لم تكن الإنكليزية السلاح الوحيد بيَدِ م. فبينما كان يتحدّث تنبَّه إلى أنّ حصّة تعَلّم الرسم حانت، فانصرف مسرِعاً.
تغمر حصّةَ تعَلّم الإنكليزية أجواءٌ مميّزة، تتجاذبها الجدّية والفُكاهة في آن معاً. فبعض السجَناء يحضر الصفّ بلهفة ليتمكّن من الدردشة بالإنكليزية مع حبيبته عبر «الواتس آب»، بعدما كان يطلب من زميله محادثتَها أو طباعة الكلام ليرسله إليها.
وآخرون يشاركون في الدورات خوفاً من أن تنسيَهم سنوات السجن ما سبقَ وتعلّموه خارجاً. إلّا أنّ العدد الأكبر من المساجين يفضّل المشاركة في تعلّمِ اللغة العربية، لحاجتِهم إليها، أقلّه لكتابة أسمائهم أو لتمضية الوقت في المطالعة أو لقراءة ترجمات الأفلام المعروضة على التلفاز.
تخرجت من الجامعة تاجر مخدرات
«دخلتُ إلى الجامعة فتخرّجتُ تاجرَ مخدّرات». بأسى وبقلب مجروح يروي د. (27 سنة) تجربتَه، فقد أنهى مرحلته المدرسية في أميركا، وعاد إلى أقاربه في لبنان ليتابعَ تخصّصَه الجامعي، بعدما توفّي والده وتخَلّت عنه والدته. إنتسبَ إلى إحدى الجامعات في بيروت وإستأجر شقة ليتسنّى له الدرس بهدوء.
ويقول: «مضى الفصل الأوّل بسلامة لأنّه لم يكن لي بعد أصدقاء في لبنان، على عكس الفصل الثاني، إذ تقرّبَت منّي زمرة من طلّابِِ كانوا يدعوني للسهر معهم، وبين تجربة هذه السيجارة، وأخذِ هذه الشمَّة… وقعتُ في شِباك المخدّرات، تدريجياً خسرتُ ما ادّخرتُه، وما عدتُ أقوى على الدفع للجامعة، فتركتُها، وفيما بعد فُضِح أمري كتاجر ممنوعات».
وجَد د. الفرقَ شاسعاً بين العيشة في أميركا ولبنان، تحديداً في سجن رومية، لذا استمرّ فترةً طويلة منزوياً، قبل ان ينتسب إلى صفّ اللغة العربية. «بدايةً استغربتُ الأمر، ولكن سرعان ما تأقلمتُ، خصوصاً وأنّ الصفّ يضمّ من مختلف الأعمار والجنسيات، ومعظمهُم يتعلّمون من الصفر، حتى إنّهم لا يجيدون الإنكليزية، فغالباً ما كنتُ أخاطب نفسي وأستسلم لولا تفهُّم المدرسة لوضعي…». رغم معانات التواصل التي واجهته، لم يستسلم د. فقد أخذ على عاتقه ليلاً، تعليم زميله الباكستاني الإنكليزية، على نحو «أفيدُه وأطوّر نفسي».
في ميزان السجين و. تختلف الحسابات، لا قيمةَ للوقت عنده، ولا للأعوام، فتوقّفَ الزمن في نظره بعد الحكم عليه بالمؤبّد، بتهمة جريمة قتلِ زوجته، فينقل لـ«الجمهورية مرارةَ ذاك الشعور بانتهاء دورِه في الحياة، قائلاً: «أحاول قدرَ المستطاع الانشغالَ بالعِلم، كنّا نهزأ من أجدادنا حين يقولون العلم نور، في السجن فعلاً، لم أجد من نور إلّا تمسّكي بالدورات التعليمية، التي تُقام، تمدُّني بالأوكسيجين».
يشدّد و. على الحضور قبل زملائه والاستفسار عن ما ستتضمّنه الحصّة المقبلة، ثقته بنفسه تحسّنَت منذ أن تعلّم كتابة اسمه على دفتره. ويقول: «لن انتظرَ الموت جالساً، قرّرت التعلّم، ولو أنّه لا مستقبل لي خارج هذه الأسوار، يكفيني أنّه تمّ تخفيض عقوبتي من الإعدام إلى السجن المؤبّد، منذ الآن ما عدتُ أتلو الصلاة غيباً إنّما بات بإمكاني قراءتُها والتمعّن فيها».
تُخَصّص المدرِّسة يسرى، الفقرة الأولى من كلّ حصّة لاسترجاع ما تمّ تعَلّمُه الأسبوع الفائت، كذلك تحرَص على إشراك السجَناء في إعطاء الأمثلة، لكي تبقى المعلومات حيّةً في أذهانهم. أمّا مَن لا يبدي حماسة من المساجين فينال الحصّة الأكبر من الأسئلة، لحَثّه على المشاركة، ومَن يتأخّر في الحضور، يشكّل زملاؤه وفداً لإحضاره عنوةً من زنزانته.
السجين ح. غالباً ما يدخل إلى الصفّ متأخّراً بعد إلحاح زملائه عليه، فيقول: «قرار التعلّم ليس سهلاً في السجن، لا سيّما أنّ البيئة الحاضنة سُجَناء سلبيّون، فنتيجة ما يتعرّضون له من كبتٍ وسوء معاملة يخرجون من السجن معنّفين مدمنين على الإجرام أكثر ممّا كانوا يوم دخلوه، لذا معظمُنا قد يَتوه خلفَ هذه القضبان، لا بل يكتسب عادات سيئة ويغزو الشرّ تفكيرَه، فالسجن لا يصلح السجين، والدليل أنّ معظم المساجين يُعاد سَجنُهم، فلا بدّ من مدرسةٍ في السجن لتصلحَ أقلّه من يريد الخلاص لنفسِه».
بالقرب من مدخل مدرسة محو الأمّية، مكتبةٌ عامة، تمّ إنشاؤها بالتعاون مع عدد من الجمعيات، مجموعةٌ من السجَناء تهتمّ بها، ترَتّبها، تنظّم كتبَها، تتابع جدول إعارة الكتب، تسهر على نظافتها. ورغم أنّ الإقبال عليها خجول، إلّا أنّها تشكّل ملاذاً آمناً لبعض المساجين.
فيروي ر. «بيننا سجَناء متعلمون، يصعب عليهم هدر الوقت من دون أيّ إنتاج أو مجهود فكري طوال سنوات العقوبة، ولكن أحياناً شجاعة البعض قد لا تكون كافية للدخول إلى المكتبة، نظراً لوضعِه النفسي والصراع الداخلي الذي يعتريه، ولعَجزِه عن استيعاب ظروف السجن».
عدل ورحمة
تشكّل مدرسة «محو الأمّية» إحدى العناوين العريضة التي تعمل على أساسها جمعية «عدل ورحمة» (مؤسسها الأب الأنطوني هادي العيا)، بعدما أخذَت على عاتقها منذ العام 1998 تحسين ظروف المساجين في سجن رومية، وفيما بعد في مختلف السجون اللبنانية.
فبعد 10 أعوام من العمل الميداني مع المساجين، يعتبر الشمّاس إسحاق حبشي المسؤول عن الأنشطة في سجن رومية أنّ «التعليم في السجون اللبنانية ضرورة»، ويوضح لـ«الجمهورية»: «تبيّنَ لنا أنّ التعليم نشاط أساسيّ، فالفترة التي يمضيها السجين في زنزانته من دون أن يكون منتجاً، تعلّمه أموراً سلبية، يُدمَّر نفسياً، لا بدّ من أنشطة محددة تساعده على الخروج من وحدته وتعيد له ثقته بنفسه».
ويضيف: «تطلِق الجمعية كلّ 3 أشهر دورات تعليمية، محو أمّية، في الإنكليزية والعربية، يشارك فيها بين 25 و 30 سجيناً، فالعدد يتأثّر بالأجواء العامّة في السجن، من إضراب، إلى استنفار، إلى انتفاضة، وغيرها من ردود الفعل اليومية».
متى إعادة تأهيل السجناء؟
لا ينكر حبشي صعوبة خَلق أجواء تثقيفية في السجن، وأنّ لتعليم المساجين خصوصيته، إلّا أنّ نجاحَ العمل يبقى «رهن أسلوب المعاملة»، ويقول: «نسعى لإشراك المساجين هواجسَنا ونستمع لآرائهم، ممّا يريحهم ويزيدهم ثقةً بأنفسِهم ويشجّعهم، وفي الوقت عينه نطلب منهم مساعدتَنا في العملية التعليمية، كترتيب الصفّ، تعداد الطلاب، دعوة زملائهم… وفي ما بعد أن يعلّموا بقيّة السجَناء».
ويلفت حبشي إلى أنّ التعليم ليس الخدمة الوحيدة التي تقدّمها الجمعية، إنّما واحدة من سلسلة خدمات، صحّية، قضائية، رعائية، نفسية، بالإضافة إلى تعَلّم الموسيقى، الرسم، تنظيم أنشطة رياضية، فنحن نحاول قدرَ المستطاع تلبية ما أمكنَ من حاجات هؤلاء المساجين».
ختاماً، لا شك في أنّ مبدأ العدالة يقتضي المحاسبة، إلّا أنّ العدالة من دون عملية تأهيلية تُخرّج مساجين ناقمين على المجتمع وأهله. فمتى تصبح إعادة تأهيل المساجين أولوية، فنتدارك بذلك تداعيات مجتمعنا بالغنى عنها؟