في ظلّ تعدّد الروايات المتناقضة التي تواكب البحث في الإستحقاق الرئاسي بعد مبادرة الرئيس سعد الحريري، تبقى مساحة الإنتظار اوسع من المساحات الأخرى. فلم يكشف الرجل بعد عن خياراته النهائية وهو ما ترك المجال للتكهنات والتسريبات بما فيها من رغبات وتمنيات. وفي انتظار مزيد من الجهود هناك شروط عنكبوتية تعوق فتح طريق قصر بعبدا قريباً أمام الجميع… وهذه نماذج منها.
الى أن تأتي كلمة الفصل في الإستحقاق على قاعدة «يا ابيض يا اسود»، ما زالت مواقف بعض الأطراف غامضة وكأنّ الوقت لم يحن بعد لكشف كامل الأوراق.
وثمّة مَن يعترف بأنّ هناك مَن يتمتع أكثر من غيره بهامش واسع من المناورة والحركة ما زال يمارسهما بقدرة قادر حتّى يتحقق الفرز المطلوب بين ما هو معلن وما هو مكتوم في زمن لا يمكن تقديره من اليوم.
هذا الفرز المطلوب ما زال صعباً رغم موجات التفاؤل التي قادت البعض الى البحث من اليوم في توزيع الحقائب السيادية والخدماتية في حكومة العهد الأولى وعناوين البيان الوزاري ومَن سيتمّ تعيينه في بعض المراكز القيادية، ذلك أنّ المعطيات النهائية مفقودة في ظل المواقف الصدامية الخارجية وتلك الداخلية التي عبّرت عن عوائق كبيرة امام احتمال تمسك الحريري بترشيح النائب سليمان فرنجية أو تجييره الى العماد ميشال عون أو اللجوء الى الخيار الثالث.
هذه المعطيات، بما فيها من غموض والتباس، شكلت واقعاً لا ينطبق مع الكثير من الحقائق الموضوعية وسبباً لتنطلق السيناريوهات المتداولة في المواقع الرسمية والحزبية المنغمسة في المفاوضات الجارية من اجل الوصول الى مقاربات ترجّح خياراً على آخر.
وهو ما فتح نقاشاً حول جملة تفاهمات وأوراق نوايا تنسب الى مفاوضات سرّية ثنائية رافقت اللقاءات التي شهدها أكثر من مقر من دون أن يعترف بها أيّ من أطرافها.
والدلائل على ذلك كثيرة، فالحديث المتنامي عن ورقة تفاهم بين التيارين الأزرق والبرتقالي لم يؤكده الطرفان، واعتبرا أنّ ما نسجه بعض التقارير الإعلامية عن هذه الورقة وتاريخ الكشف عنها من نسج الخيال.
وقيل إنها جاءت نتيجة تجميع بعض التفاهمات حول عناوين متفرّقة في لائحة واحدة قياساً على حجم وأشكال أوراق التفاهمات وبيانات النوايا التي تمّ توقيعها ما بين مار مخايل ومعراب في إطار حرب نفسية تتبادلها الأطراف المتصارعة من دون أيّ عوائق سياسية أو أخلاقية.
وهو ما انعكس في رأي المراقبين إستمراراً في الشغور الرئاسي من دون حدود، فتجاوز اللبنانيون أولاً المهل الدستورية قبل نهاية العهد السابق، وصولاً الى عامين ونصف العام من الشغور تجاوز فيها تعطيل نصاب المجلس النيابي 45 موعداً ضربت لإنتخاب رئيس الجمهورية.
ثمّة مَن يقول إنّ هناك تفاهمات سابقة نسجت بين الحريري وفرنجية في بيروت وباريس إتخذت ذريعة لعقد مثيلات لها ما بين الحريري وعون، لكنّ أيّاً منهما لم يعترف بذلك.
ولكن رغم أجواء النفي، هناك أطراف أخرى تطالبهما بالكشف عن مضمونها وحصة حلفاء الطرفين على غرار تلك التي تحدثت عن حصة «القوات اللبنانية» منها. وكلّ ذلك يتزامن مع التحذيرات التي أطلقت من خطورة أيّ تفاهم ثنائي لن يؤدّي الى أيّ إنجاز، قياساً على تجربة الحريري – فرنجية التي لم يجفّ حبرُها بعد.
واللافت أنّ كلّاً من الأطراف اللبنانيين الذين يخوضون الإستحقاق يشكك في نوايا بعضه بعضاً، فهاجس المؤامرة ما زال مزروعاً في رؤوس الجميع. كلّ من وجهة نظره ولهدف مختلف عن الآخر يشكك بحليفه وحليف حليفه. ما يوحي باستمرار الحذر والشكك المتبادل مخافة الوقوع في أفخاخ ومكائد تُنصب للخصوم والحلفاء.
فنسج التفاهمات بين الأصدقاء كما بين أعداء الأمس – أعداء اليوم باتت موضوع تندر وتسريبات تمس صدقيتها ومدى ديمومتها وصمودها. لذلك باتت عرضة للتداول في مساحات التشكيك مثل التي تناولت موقف «القوات» من صدق ترشيحها لعون الذي وصل بالبعض الى اعتبار ترشيح الحريري لعون أكبر مفاجأة لها كما لـ«حزب الله».
وهو ما دفع بهما الى تلاوة فعل الإعتراف بدعم عون مرشحاً دائماً ونهائياً يومياً تأكيداً على الصدقية، من دون أن يعلّق أحد مثلاً على تشكيك «حزب الله» ونقزته من تعهدات عون التي قطعها لجعجع وكذلك من تعهداته للحريري، وهو ما عبّر عنه أكثر من طرف آخر يحيط به محذِّراً من تعهّدات سرّية متناقضة قد تفجر الوضع في أية لحظة.
الى هذه النماذج من الحذر والشكوك المتبادلة، ثمّة مَن يتحدث عن شروط أخرى «عنكبوتية» تعقّد الأمور وتشبكها أكثر من أيّ وقت مضى. فماذا لو صحّ القول إنّ «القوات» ومعها عون يشترطان على «حزب الله» تطويع موقف الرئيس نبيه برّي من عون التزاماً بتعهّداته السابقة مقابل الإشارة الى أنّ عون إشترط على الحريري فكفكة عقد بري الذي يحتفظ بسرّ عن جعجع لا يبوح به.
تزامناً يقول آخرون إنّ «حزب الله» هو مَن طلب أن يرتب الحريري الأمور مع برّي والنائب وليد جنبلاط قبل أن يعود اليه. وكلّ ذلك يتمّ التداول به على وقع القول إنّ بري طلب من الحريري ترتيب علاقاته مع «حزب الله» مباشرة ومن دون وسيط كمثل الذي يشهد عليه الحوار الثنائي بينهما في ضيافته لأنه لم يقارب يوماً ترشيح الحريري لعون.
وقياساً على هذه النماذج، يحار المراقب مَن يصدّق، لذلك تبدو الأمور معلّقة الى أن يتمّ الفرز بين ما هو إقليمي وما هو محلّي أولاً، وإمكان التقائهما على مخرج للإستحقاق ثانياً، قبل أن تدور اللعبة الداخلية دورتها لترجمة ذلك. وهو ما يؤدّي في حال استمرارالغموض الى نتيجة واحدة يترجمها التوتر الداخلي فتعلو العوائق على طريق القصر الجمهوري أمام كلٍّ من عون وفرنجية كما أيّ خيار ثالث.
وتبقى الأمور على ما هي عليه من شغور في انتظار مَن يحسم الأمر في وقت لاحق لا يمكن لأحد تحديده بعد. وتطول حال المراوحة ومعها المزيد من تبادل الإتهامات على نار حامية قد تقود الى تقلّبات دراماتكية في المواقف والتحالفات القائمة أو تلك المتوقعة وهو ما يزيد الأمور تعقيداً الى أجل غير منظور.